التكفير الإلكترونى صار أقرب إلينا من حبل الوريد!
معرض الكتاب بلا مصادرات
حمدا لله، نجا عرس الكتاب السنوى، معرض القاهرة الدولى للكتاب من بلاغات التكفير والمصادرة، المجتمع كالنهر يغسل أدران مرحلة سبقت كان سلاح التكفير مشهرا فى وجه المفكرين والمبدعين..
زمن شهدنا عجبا، خنق الإبداع كان طقسا، ومطاردة المبدعين ظاهرة للعيان، كان المحتسبون الجدد يستحثون الخطى نحو عرس الكتاب، يضربون كرسى فى الكلوب..
زمن كان الحساب عسيرا، هل برئنا من آفة التكفير، أخشى كمونا لحظيا، قل بياتا شتويا، يقينا لا بدين فى الدرة، فى ألخّص وأعينهم بنبض على كل حرف مكتوب أو مسموع أو مشاهد على التلفاز أو شريط سينما فى دار عرض لاتزال أنوراها ساطعة.
للذكرى، كان الحساب ع الحرف، وكانت الكناية نكبة، والتشبيه مصيبة، ومن أمثلتها كثير، وصدر المقال كان يحسب تحرشا، وفخذ ضأن تلميح معيب، وكعب غزال يامتحنى تصريح خارج، وقدك المياس من قاموس الشيطان الرجيم، وكلمة ونظرة عين مقدمة كلثومية فاحشة، إياكم وخدش الحياء.
فى مجتمع الفضيلة الذى نرفل فيه، لا مكان للزفرات والعبرات والأهات والمترادفات والاستعارات والمكنيات.. جمع كناية، والكناية تَعْبير عن شَيء مُعَيّن بلَفظ غير صريح فيه إبْهام، تَوْريّة، تَلْميح، تَعْريض!!
حزب الفضيلة ينشط حثيثا لحماية الآداب العامة من تفلت المبدعين، وتغول الفنانين، يفرض قاموسه الخاص، يفتش فى النوايا، يبحث عن خط فى لوحة، وكلمة فى رواية، وشطر فى قصيدة، ولقطة مقربة فى حمام فى فيلم ملون بألوان السماء السابعة.
استباح «المحتسبون الجدد» سمعة الأدب والفن والشعر والفكر المصري، وأثخنوه جراحا، كلما فاه كاتب أو مفكر بكناية مكنية أسرعوا إلى الإبلاغ عنه زورا وبهتانا ليحاكموه قضائيا، فعلوها سابقا، واغتالوا فرج فودة على قيد الحياة قبل أن يردوه بالرصاص، وحاولوا اغتيال نجيب محفوظ بسكين فى رقبته، وكفروا نصر أبو زيد ومات وحيدا فى غربته الأوربية، وثلاثتهم فى رحاب الله، وحسابهم عند ربهم.
زمن ماضوي أرهبوا فيه المفكرين، وأهدروا دم المغدورين، وفرقوا بين المرء وزوجه فى المضاجع، لايطيقون تفكيرا، يتلمظون تكفيرا.
عجبا ركبوا المنصات الإلكترونية بعد أن أنزلهم وزير الأوقاف الشجاع دكتور «محمد مختار جمعة» بإرادة سياسية رئاسية نافذة، عن المنابر المسجدية، فطاحوا فى الخلق باتهامات فضائك ما تلبس أن تتحول إلى بلاغات قضائية كالحيات تسعى أثر المبدعين فى الطرقات.
كالعسس يتقفون صفحات المفكرين والأدباء والفنانين والصحفيين تقفيا محموما، ويجيشون ضد الشعر والنثر والرسم والنحت، فى قلوبهم مرض من الفنون والأفكار جميعا، زادهم الله مرضا، مرض القلوب علة لم يكتشف لها العلماء علاجا..
ماكينة التكفير الإلكترونية سيما على منصة إكس (تويتر سابقا) لها صرير يصم الآذان، البعض صار يتحسس رقبته، يطمئن أن رأسه فوق جسده، للأسف صرنا (إلا قليلا) مسجونين فى سجن الخوف والخشية من هؤلاء المكفراتية الإرهابيين الذين يسوقوننا إلى المذبح كل حين، وآخر من سيق الدكتور «أحمد عبده ماهر» لأنه فاه بما يجيش به صدره ونطق به لسانه فى شجاعة أدبية.. يلقى عنتا من المحتسبين الجدد.
من أين لهؤلاء هذه السطوة على الفضاء الإلكتروني، إلى متى نظل أسرى مقيدين أمام تفحش المحتسبين الجدد، يتوعدون متربعين بروح تكفيرية ثأرية عاتية، تعجب الذى فى قلبه مرض.
لعنة التكفير أصابت العصب المصرى منذ زمن بعيد، وتمكنت من العقل الجمعى. التكفير صار أقرب إلينا من حبل الوريد، نسبح عراة عزل فى بحيرة التكفير، ونجدف بما أوتينا من عزيمة للإفلات من تماسيح التكفير ترقد ممدة على الشاطئ تنتظر فريستها منهكة.
التكفير صار (لبانة) فى الأفواه، يمضغونها، ثم يبصقونها فى وجوه الذين أبدعوا، وقالوا إنا مفكرون.
العاجل إيقاف ماكينة التكفير القضائية عبر بلاغات أقرب للبلاعات التى تبتلعنا رغم أنوفنا، تكتب يبلغ عنك، تفكر يبلغ عنك، مطلوب تحرك قبل أن تجز الماكينة الشرهة مزيدا من الرقاب، فليهب المثقفون ويثبتوا فى وجوههم، دافعا عن حق مشروع فى التفكير، لا تتركوا الساحة أمام «المحتسبين الجدد» خالية للتكفير، براح تسعى فيها خيول التكفير تدهس بسنابكها الحديدية كل نبتة خضراء تنمو فى حديقة الفكر.
قائمة البلاغات ضد المفكرين والأدباء والصحفيين والفضائيين لا تحصى، منهم من ذهبوا به إلى المنصة العالية وصدرت أحكام بالسجن وقضى محكوميته ملوما محصورا، ومنها من ينتظر دوره فى رول التكفير، تشى القائمة الطويلة بما ينتظرنا على أيدى هؤلاء الدواعش، الحرية تستحق، والإبداع الحر حق مستحق، حرية الإبداع من حقوق الإنسان.
خلصنا من مكفراتية المساجد احتل منصة «الحسبة» مكفراتية الفضاء الإلكتروني، وما إن اختفوا قسرا بفعل الرفض المجتمعى، الذى واكب إزاحة الاحتلال الإخوانى البغيض، الذى جثم على الصدور خانقا فى سنوات «الفوضى الخلاقة»، حتى هب فى وجوهنا من أقبيتهم المسحورة نفر من المحامين لاهم لهم إلا سوق المفكرين إلى مكتب النائب العام، وسجنهم بتهمة الازدراء، وهى تهمة عجيبة، يحار العاقل فى تفسيرها، فعلا إن تهمة الازدراء تشابهت علينا.
المحتسبون الجدد يظهرون كل حين، أخشى تمامًا من ظهوراتهم فى أوقات الأزمات المجتمعية.
خطير جدًا تفشى حالة المطاردة العقورة التى تعد الأنفاس فى صدور المبدعين، هذا يضع المبدعين فى قفص الاتهام ابتداء، ويطرحونهم أرضا كاللحم المكشوف على قارعة الطريق.
المحتسبون الجدد يستحلون عقول البسطاء، يرمون المبدعين والمفكرين بكل نقيصة، يحرضون عليهم، يتهمونهم بما ليس فيهم، يستغلون عاطفة البسطاء بثنائية الحلال والحرام والخروج على الآداب العامة باعتبارهم سدنة الفضيلة.
خلاصته يهدرون دماءنا على قارعة الطريق، ويفسحون المجال واسعا أمام المتهوسين لسفك الدماء بسيف تغيير المنكر.
لن ألوم شيخا مكفراتيا، ألوم من فتح الشباك الإلكترونى لينفذ منه تكفيرا، ولا ألوم محاميا محتسبا، من مكنه من الرقاب بورقة بيضاء ورسوم قضائية.
البلاغات التكفيرية خطر داهم، خطير التكفير الإلكترونى، الذى يتجسد تكفيرا فضائيا، ما يلبث أن يتطور بلاغا يحرر ليشير تشييرا، وتتحول الحية حية تسعى بين الناس، فيتهمون المبدعين والمفكرين فى دينهم، هلّا شققت عن قلبه.. وهى وصية نبوية شريفة قال بها المعصوم عليه الصلاة والسلام، فالواجب العمل بظاهر الإنسان، وما يدل عليه الشرعُ فى حقِّه، أما باطنه، وسريرته؛ فإلى الله.
لسنا معصومين ولا نطلب عصمة، وليس هناك من هو فوق النقد، فارق كبير بين جرح الحديث وذبح المتحدث، المجتمع العاقل الناصح الصحيح الفكر، يقتات الحوار ليس الخوار، الحوار من سمات الإنسان، والخوار من فعل من لا يحسنون الحوار.
الصمت على التكفير الإلكترونى ومرادفاته الفضائى والقضائى لم يعد مستساغا، مستوجب من الواجب عندما ترى الدولة محرضا على أصحاب الأفكار، فلتقل له قف حيث أنت، من أنت، لست مخولا بالحساب أو العقاب، من ولاك عليهم، من نصبك قيما على الفكر والإبداع.
يستعيذون بالله إذا مس أحدنا طرف جلباب شيخ من شيوخهم، ولكنهم يستحلون دماءنا مبسملين محوقلين، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
أخشى تمامًا أن تدور ماكينات الرقابة الشعبية التى يشكلها هؤلاء المحتسبون الجدد، وطواقم محاكم التفتيش للتنقيب فى زوايا كل مشهد، عن لقطة، أو لفظ، أو صورة على الحائط، تجمد الصورة وتشييرها تشييرا للإدانة، ويقع المبدعون فى شراك البلاغات الجزافية، ويتحول المشاهدون إلى رقباء، وتنتشر جماعات الانكشارية على المنصات الإلكترونية والفضائية، تلوم هذا، وتعاقب ذاك.