لبلادنا مصر مكانة كبيرة ومتميزة فى الأديان السماوية الثلاثة، فقد زارها الكثير من الرسل والأنبياء، وعلى أرضها عاش الكثير من القديسين والصالحين، وارتوت أرضها بدم الشهداء والأبرار، ويظل الحدث الأبرز فى تاريخ بلادنا المصرية هو هروب العائلة المقدّسة، (الطفل يسوع وأمه السيدة مريم العذراء والشيخ يوسف البار والسيدة سالومى قريبة العذراء)، إلى أرض مصر بحثاً عن السلام والطمأنينة والأمان، كان ذلك فى القرن الأول الميلادى حين هربت العائلة المقدّسة من وجه هيرودس الملك، الذى أراد قتل الصبى، حيث كان يظنه ملكاً أرضياً جاء لينزع المُلك منه، ولم يكن يدرى أنه ملك فوق مستوى الزمان والمكان، فكانت مصر ملاذاً آمناً للطفل يسوع وأسرته.
فى مصر استقرت العائلة المقدّسة لفترة تتراوح بين ثلاث سنوات ونصف وأربع سنوات، زارت خلالها عدة مواقع ومناطق كثيرة، من شمال مصر إلى جنوبها، فى رحلتى المجىء والعودة، وكأنها أرادت أن تبارك أرض مصرنا الحبيبة والطيبة، حيث مرت بكل من الفرما بشمال سيناء، تل بسطا ثم بلبيس بالشرقية، سمنود بالغربية، سخا بكفر الشيخ، وادى النطرون بالبحيرة، المطرية ثم مصر القديمة والمعادى بالقاهرة، منف (ميت رهينة) بالجيزة، دير الجرنوس بالبهنسا، جبل الطير ويُسمى أيضاً جبل الكف بسمالوط، الأشمونين، ديروط الشريف ومير القوصية ودير المحرق بأسيوط، وجبل درنكة ودير الجنادلة بأسيوط حسب بعض الكتابات.
ومن هناك عادت العائلة المقدسة ثانية إلى أرض فلسطين، بعد أن عاش السيد المسيح طفولته فى مصر، ومن الأماكن التى زارتها فى رحلة العودة منطقة مسطرد بشبرا الخيمة، حيث كنيسة السيدة العذراء المعروفة باسم «المحمة»، وقد تحولت تلك المناطق إلى بقع مباركة، بها كنائس وأديرة ومزارات، تخدم المجتمع المحيط بها، ويؤمها الناس حتى يومنا هذا، من داخل مصر وخارجها أيضاً، من المسيحيين وغيرهم، طلباً للبركة والتماساً للمعونة، أو اشتياقاً للبحث والمعرفة.
لقد أصبحت النقاط التى زارتها العائلة المقدّسة مزاراً سياحياً محلياً وعالمياً، خاصة أن هذه الرحلة تحظى أيضاً باهتمام كبير من منظمة «اليونيسكو» (UNESCO) المعنية بحفظ التراث الإنسانى المادى والمعنوى، كما أن قداسة البابا فرنسيس -بابا الفاتيكان- كان قد قرّر فى أكتوبر 2017م، اعتبار مسار العائلة المقدّسة فى مصر «رحلة حج مسيحى»، بالنسبة للمسيحيين الكاثوليك حول العالم، وفى شهر مايو من عام 2018م أُدرجت زيارة المسار بشكل فعلى ضمن زيارات الفاتيكان الرسمية، ليجتذب اهتماماً عالمياً كبيراً.
لست أعلم لماذا كانت مصر هى وجهة العائلة المقدّسة منذ أكثر من ألفى عام، وليس غيرها من بلاد الله الكثيرة؟! هل لقربها من أرض فلسطين، حيث وُلد الطفل يسوع المسيح، رغم أن هناك دولاً أخرى قريبة أيضاً؟ أم بسبب استقرار الأوضاع فيها وتمتعها بالسلام؟ أم بسبب كرم أهلها وطيبة شعبها؟ أياً كانت الأسباب فإن ما أعلمه أن مصر محمية ومحروسة ومباركة، ولها مكانة كبيرة فى قلب الله، حيث قال عنها فى سفر إشعياء (19) إنه «فى ذلك اليوم يكون مذبح للرب فى وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها»، وقال أيضاً «مبارك شعبى مصر».
وعن رحلة هروب العائلة المقدّسة لأرض مصر أتذكر أن قداسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، قال فى أحد لقاءاته «هى صفحة من كتاب الحضارة المصرية، نفتخر بها على المستوى الكنسى والوطنى»، وبسبب أهمية رحلة العائلة المقدّسة، وتفرّد مصر بها بين بلاد العالم، فقد حظيت تلك الرحلة ومسارها باهتمام آباء الكنيسة وأبنائها عبر العصور.
كما حظيت مؤخراً باهتمام كبير من جانب القيادة السياسية مُمثلة فى الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى أبدى تحمّساً واهتماماً ملحوظين بمشروع إحياء مسار العائلة المقدسة، الأمر الذى انعكس على تحركات مسئولى الجهات التنفيذية المعنية فى مقدمتهم رئيس الوزراء ووزير السياحة والآثار ووزير التنمية المحلية ومحافظى المدن التى زارتها العائلة المقدّسة.