وجوده سابق لميلاده، فهو المولود من العذراء القديسة مريم، لكنه غير مخلوق. «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ… وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا ١: ١،١٤).
وُلد من عذراء بغير أب بشري، تحقيقاً للنبوة القديمة: أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تكوين ٣: ١٥). ولا يوجد نسل امرأة، بدون أب بشري، إلا هو. ولم يسحق رأس الحية أحد إلا المسيح، فالكل خطَّاؤون، وبعضهم توَّابون. المسيح وحده هو الكامل الذي لم يخطئ أبداً، وفيه تحققت أول نبوة توراتية.
كان لا بد لخَلق آدم من معجزة، لأنه أول البشر. وقد عصى آدم ربه وأكل من الشجرة المنهيِّ عنها، وسقط فسقطَتْ ذرِّيته، وخرجوا من الجنة بعضهم لبعض عدو، فقتل قايين أخاه هابيل – واستمر الجنس البشري في ضلاله وغيّه.
ولم يكن هناك داعٍ لإجراء معجزة مماثلة ليولد المسيح من عذراء، فقد كان الآباء والأمهات متوافرين – فلا بد أن يكون هناك سبب آخر يدعو لمعجزة الميلاد العذراوي – نعتقد أنه تحقيق النبوة التوراتية الأولى، كما ذكرنا، ولتحقيق نبوات أخرى كثيرة، منها: «هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» (الذي معناه: الله معنا) (إش ٧: ١٤).
ولم يكن المسيح كآدم، فآدم أخطأ، والمسيح لم يخطئ مطلقاً. ولذلك يقول الرسول بولس إنه كما في آدم يموت الجميع، فإنه في المسيح يحيا كل من يؤمن به (١كورنثوس ١٥: ٢٢).
أما أمه العذراء المباركة فقد قال لها الملاك جبرائيل: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ عَلَيْهَا!… مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ.. قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ… اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ» (لوقا ١: ٢٦-٣٨). وعندما ذهبت لتزور أليصابات زوجة الكاهن زكريا، قالت لها أليصابات، وهي حبلى بالمعمدان: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي ٱلنِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هٰذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ٱرْتَكَضَ ٱلْجَنِينُ بِٱبْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ» (لوقا ١: ٣٩-٤٥). وقد رنَّمت العذراء بعد ذلك قائلة: «تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي،… فَهُوَذَا مُنْذُ ٱلآنَ جَمِيعُ ٱلأَجْيَالِ تُطَّوِبُنِي» (لوقا ١: ٤٦-٥٦).
هذا العجيب في مولده العذراوي، العجيب في عظمة الأم التي ولدته، يمكن أن نعزوه لأمه، فنقول: «المسيح ابن مريم» – فإذا أردنا أن نعزوه إلى أب، كقولنا موسى بن عمران وإشعياء بن آموص، فماذا نقول؟ نقول ما قاله الملاك جبرائيل: «هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ… اَلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ ٱلْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذٰلِكَ أَيْضاً ٱلْقُدُّوسُ ٱلْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (لوقا ١: ٣٣-٣٥).
٢- المسيح فريد في تعليمه:
جاء رسل الله وأنبياؤه برسالة من الله، وكانوا يؤيدون صدق نبوّتهم بقولهم: «هكذا قال الله». أما المسيح فكان يعلِّم بسلطان، ويأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه (لوقا ٤: ٣٦).
سائر الأنبياء أعلنوا كلمة الله، أما المسيح فهو نفسه الكلمة. هو الرسول والرسالة، وهو النبي وموضوع النبوات. كانت حياته مثل كلماته، فلم يقدم تعليماً للعامة دون أن يطبّقه هو على نفسه – ولم يمهِل سائلاً وجَّه إليه سؤالاً، ولم يغيّر ما علَّم به بحجَّة تغيُّر الظروف – فقد كانت كلمته هي الحق الذي لا يتغير، والإِعلان الإِلهي ذا السلطان.
جعل المسيح نفسه مركز الخلاص، وطريق الحياة الأبدية. ولم يشاركه في ذلك أحد. وحده أعلن: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى ١١: ٢٨) – فمن هذا الذي يريح كل متعب مهما كانت نوعية تعبه، في كل مكان، وفي كل زمان؟ ثم اسمعه يقول: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا ١٤: ٦). «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا ١١: ٢٥). / «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا ٨: ١٢). وقد ساندت أفعال المسيح كل تعاليمه. فعندما أعلن أنه نور العالم فتح عيني المولود أعمى، وعندما قال إنه القيامة والحياة أقام لعازر من بين الأموات بعد دفنه بأربعة أيام – فلم تكن تعاليمه نظريات مجردة بل أفعالاً ملموسة.
وكانت تعاليمه الأخلاقية قمة في كل شيء – ولا تجد تعاليم أخلاقية في مثل روعتها. ولا غرابة، فإن الإِنجيل يقول: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عبرانيين ١: ١،٢) – فالنبي عبد مرسَل، لكن الابن هو صاحب البيت، كما يقول الإنجيل: «مُوسَى كَانَ أَمِيناً فِي كُلِّ بَيْتِهِ (بيت الله) كَخَادِمٍ، شَهَادَةً لِلْعَتِيدِ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ. وَأَمَّا ٱلْمَسِيحُ فَكَٱبْنٍ عَلَى بَيْتِهِ» (عبرانيين ٣: ٥،٦). ولا غرابة أن يكون تعليم الابن ذروة التعليم، بمقدار ما أن شخصه قمة الأشخاص – وهذا ما نكتشفه فور قراءتنا لموعظة المسيح على الجبل في الأصحاحات ٥-٧ من إنجيل متى، وهي تحضُّ على محبة الأعداء والمغفرة للمعتَدين. كما أن تعاليمه عن مساعدة المحتاجين هي تعاليم الله نفسه، وهو يقول: «جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ». فإن ما نفعله بالفقير والمحتاج نفعله به هو نفسه (متى ٢٥: ٣١-٤٦).
٣- المسيح الفريد في معجزاته:
معجزات المسيح كثيرة ومتنوعة، تُظهر سلطانه الكامل في كل ميدان، ولا غرابة، فقد قال: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متى ٢٨: ١٨). ويقدم لنا البشير مرقس مجموعة معجزات أجراها المسيح في يوم واحد – أسكت العاصفة بقوله للبحر: «اسكت» فسكتت الريح وصار هدوء عظيم (مرقس ٤: ٣٣٥-٤١). وطرد فرقة شياطين من جسد ملبوس مسكين، فرجع إليه عقله (مرقس ٥: ١-٢٠) وشفى نازفة دم ظلت تنزف اثنتي عشرة سنة بدون أمل في شفاء (مرقس ٥: ٢٥-٣٤) وأقام ابنة يايرس من الموت (مرقس ٥: ٢١-٢٤، ٣٥-٤٣). ومن هذا نرى سلطانه على الطبيعة والشياطين والمرض والموت.
وهناك معجزة دائمة الحدوث، هي معجزة تتويب الخاطئ وردّه عن ضلاله، وقد شبَّه المسيح نفسه بالراعي الصالح الذي يفتش عن الواحد الضال حتى يجده، وقال إن السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب (لوقا ١٥: ١-٣٢). وهذه المعجزة لا تتوقف، ويصفها الإنجيل بالقول: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (٢ كورنثوس ٥: ١٧). وقد لخَّص المسيح رسالته يوم قرأ نبوَّة جاءت عنه في الإصحاح الحادي والستين من نبوة إشعياء، تقول: «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّة» (لوقا ٤: ١٨،١٩). ولا زال يفعل هذه المعجزات مع كل من يؤمن به.
ولقد قال المسيح: «وَمَهْمَا سَأَلْتُمْ بِٱسْمِي فَذٰلِكَ أَفْعَلُهُ لِيَتَمَجَّدَ ٱلآبُ بِٱلٱبْنِ. إِنْ سَأَلْتُمْ شَيْئاً بِٱسْمِي فَإِنِّي أَفْعَلُهُ» (يوحنا ١٤: ١٣،١٤) وقال أيضاً: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ ٱلآبِ بِٱسْمِي يُعْطِيكُمْ» (يوحنا ١٦: ٢٣) – وهذه الأقوال الفريدة لم يقلها أحد غير المسيح، لأنه فريد في سلطانه. وقد حققها، ويحققها دائماً، فإن معجزات المسيح الشفائية لا زالت تتم اليوم باسمه. وقد ذُهل طبيب من شفاء معجزي لأحد مرضاه، ولم يكن هناك تعليل طبي لما جرى، فقال له المريض الذي شُفي: «عندما كان المسيح على أرضنا أجرى المعجزات، ولما رفَّعه الله إليه استمر يُجري المعجزات، فهو الحي، وهو الذي شفاني». ولا غرابة أن يقول الإنجيل عنه: «ٱلْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَٱلْيَوْمَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (عبرانيين ١٣: ٨)