يبدو العرب فعليا خارج التاريخ، دولا وشعوبًا، حكاما ومحكومين، الغالبية لا تفكر بطريقة استراتيجية، تتابع ما يجرى فى غزة من جرائم حرب وفظائع مخيفة، كأنها قدر مكتوب يتعايشون معه، قد يغضبون، يتصلون، يتحدثون فى فضائياتهم وإعلامهم وكاميراتهم على طريقة «اللهم لا نسألك رد القضاء وإنما نسألك اللطف فيه»، دون أن يتقدموا «خطوة فعلية واحدة على أرض الواقع» توقف هذه الحرب وتُحَجِّم الوحشية الإسرائيلية، فالمصالح الفردية الأنية المباشرة تحكمهم، المصالح التى تحت أقدامهم، دون النظر إلى المستقبل، لا يصدقون الخطر الذى يهددهم جميعا، يتصورونه قاصرا على «بقعة جغرافية» خطفها الاستعمار الغربى، وأفرزها كيانا غريبا عنه باسم إسرائيل فى عام 1948، وإسرائيل ليست وطنا قوميا لليهود فحسب، وإنما هى وظيفة فى المنطقة، الوطن القومى مجرد لافتة، يافطة بالبنط العريض مكتوبة بحروف يختلط فيها كثير من الغش وقليل من الإنسانية المزيفة، كأنها تعويض عن اضطهاد اليهود مئات السنين فى أوروبا! المدهش أن الغرب نفسه، يعترف من أول لحظة بالوظيفة التى صنع إسرائيل من أجلها، يعترف بها قبل أن يؤسس إسرائيل بأكثر من مئة سنة، وجاء الاعتراف على لسان هنرى جون تمبل بالمرستون المعروف باسم لورد بالمرستون وزير الخارجية البريطانية، خلال توقيع معاهدة لندن سنة1840، والتى عرفت باسم اتفاقية إعادة السلام إلى بلاد الشام، بين الدولة العثمانية وأربع دول أوروبية: روسيا وبروسيا وبريطانيا والنمسا، لدعم الدولة العثمانية، فى مواجهة توسعات محمد على باشا والى مصر، إذ قال: ستكون فلسطين اليهودية سدا فى وجه أى محاولات شريرة لإنشاء دولة عربية تضم مصر والشام وتهدد مصالحنا من جديد!
وكانت بريطانيا قد افتتحت قبل عامين أول قنصلية لها فى القدس، واختارت «وليام يونج» قنصلا، وهو إنجيلى متطرف، ينحدر من طائفة البيوريتانيين التى شكلت الطبقة الحاكمة فى بريطانيا فى القرن السابع عشر، وتعد الركيزة الرئيسية التى خرجت منها المسيحية الصهيونية، التى تؤمن بأن لها مهمة مقدسة، تجميع اليهود فى أرض الميعاد، كخطوة تسبق المجىء الثانى للمسيح ليحكم العالم من صهيون.
أى كانت عبارة بالمرستون قبل إصدار وعد بلفور بـ77 سنة.. الوعد الذى صنع المأساة، وأيضا قبل المؤتمر الصهيونى الأول الذى رأسه تيودرهرتزل فى سويسرا بـ57 سنة، وكان هرتزل قد أصابه بعض الإحباط من فتور حماس أغنياء اليهود، لتمويل مشروع فكر فيه، وهو تنظيم اليهود وشراء الأراضى والعمل على إنشاء وطن قومى لهم فى فلسطين أو الأرجنتين أو أوغندا، وحين عقد المؤتمر فى 29 أغسطس سنة 1897، فى كازينو بلدية بازل السويسرية، انتهوا إلى فلسطين، ويبدو أن عبارة اللورد بالمرستون بما له من ثقل الإمبراطورية البريطانية هى التى حددت الاتجاه والمكان.
صحيح أن نابليون بونابرت حين جاء غازيا للشرق فى عام 1798، روادته فكرة وطن اليهود فى فلسطين، لكن انكساره فى عكا، ثم فراره من مصر متخفيا فى أغسطس 1799، ليقود فرنسا نفسها وانغماسة فى معارك لاحصر لها فى أوروبا، أبعدت هذه الفكرة عن ذهنه، فلم يتفوه بها مرة أخرى، وانشغل بتصفية حساباته مع بريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا وإسبانيا، وهى حروب استنزفته، وأنهت أحلامه، فمات منفيا فى مستعمرة بريطانية هى جزيرة القديسة هيلانة، ويقال إنه مات مسموما بالزرنيخ.
نعود إلى وعد بلفور، إلى سنتين قبل صدوره، وحسب الوثائق البريطانية، نجد الوزير هربرت صموئيل، وهو يهودى أرثوذكسى وأول مندوب سامى بريطانى فى فلسطين، قد كتب مذكرة فى مارس 1915، أى خلال معارك الحرب العالمية الأولى، يقول فيها: «إن الإمبراطوية التركية سوف تنهار فى الحرب، وسيكون علينا أن نختار بين عدة احتمالات بالنسبة لمستقبل فلسطين، فإذا تركنا الأمر دون تدخل، فسوف تضم فرنسا فلسطين إلى الشام، وتصبح خطرا يتهدد المصالح البريطانية، والاحتمال الثانى أن تعود إلى تركيا، والاحتمال الثالث أن توضع تحت حماية عدد من الدول الأوربية، وهو احتمال خطر أيضا، لأن ألمانيا ستستغل الموقف وتجعل فلسطين محمية ألمانية، ولن يبقى سوى إعطاء فلسطين لليهود، بشرط أن تصبح تحت الحماية البريطانية أولا».
المدهش أن مارك سيكس المستشار الداهية فى وزارة الخارجية البريطانية، صاحب اتفاق «سيكس- بيكو» لتقسيم الولايات العثمانية بالشرق الأوسط مع فرنسا، هو الذى اقترح صياغة وعد بلفور، خاليا من أى تفاصيل قد تعوق تمريره فى مجلس الوزراء!
باختصار وعد بلفور لم يصدر لإرضاء اليهود، أو لأن الصهاينة طلبوا الوطن القومى وألحوا عليه وضغطوا من أجله، كان اتفاقا بين الدول الاستعمارية الأوروبية، وأخذت بريطانيا موافقة الولايات المتحدة عليه قبل إعلانه رسميا.
لم يمر وعد بلفور بسهولة كما يتصور أكثرية الناس، مثلا إدوين مونتاجو وزير الهند فى الحكومة البريطانية عارضه بشدة، بالرغم من يهوديته، لكنه لم يكن صهيونيا، ورأى فى إقامة دولة صهيونية فى فلسطين ستكون بداية لمشكلات لن تنتهى، وسوف تهدد مستقبل كل يهود العالم، أولا سوف يتشكك مواطنو الدول التى استقر بها يهود فى ولائهم لتلك الأوطان، وقد يخلق «جيتو» عالميا يحاط فيه اليهود بالعداء الأبدى.
يا ترى.. هل رؤية مونتاجو قبل مئة وثمانية أعوام تتحق الآن، بعد أن عادت موجة معاداة السامية إلى التعبير عن نفسها، ردا على جرائم إسرائيل الصهيونية ضد الإنسانية فى غزة والضفة الغربية؟
المهم أن مونتاجو حاول وقف الوعد، وكتب عدة مذكرات لمجلس الوزراء يعدد مخاطر وجود هذه الدولة الصهيونية، بل وعرض أفكاره على السير كلود مونتفيور رئيس الجمعية اليهودية البريطانية، واتفقا على أن خروج اليهود من الأحياء اليهودية لينتشروا فى العالم هو الحل المثالى للمسألة اليهودية، ويجب ألا يعودوا إلى السجن ثانيةً داخل أى حدود جغرافية!، وأن الصهيونية عقيدة سياسية وليست دينية، وفكرته خاطئة على كل المستويات، يرفضها اليهود الاندماجيون، كما يرفضون الربط بين فلسطين واليهود، وإذا كانت فلسطين قد لعبت دورا فى التاريخ اليهودى، فهى لعبت نفس الدور فى التاريخين المسيحى والإسلامى.
وقد دار حوار ثلاثى بين مونتاجو وبلفور وجورج لويد رئيس الوزراء البريطانى، وقد قال لهما: كيف تكون فلسطين وطنا قوميا لليهود وفيها مسلمون ومسيحيون ويهود، هم أهلها منذ قرون؟، ماذا سنفعل بهم؟، هل نطردهم؟، هذه مشكلة أخرى.
رد بلفور: يا سير مونتاجو.. دعك من المشكلة الأخرى، وفسر لى كيف تعتبر منح اليهود وطنا لن يحل مشكلتهم؟
رد مونتاجو: فلسطين بلد صغير، ولن يستوعب أكثر من ثلث يهود العالم، مع طرد كل أهلها الحاليين، أى سيظل أكثر من نصف اليهود فى الأوطان التى يعيشون فيها.
لم يعلق جورج لويد، وكما قال مونتاجيو فى مذكراته: لم يكن لويد يكترث باليهود، ولا يهمه ماضيهم ولا مستقبلهم، لم تكن المشكلة التى يسعى إلى حلها مشكلتهم، كان يسعى لحل مشكلة الإمبراطورية!
أليس هو ما يحدث الآن ويفسر «هذا الدعم الأمريكى البريطانى غير الإنسانى» لإسرائيل وهى ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد الفلسطينيين، وإصرارها على الإبادة الجماعية لهم أو طردهم قسرا بالدم والتجويع والهدم وتفريغ أرضهم من كل سبل الحياة؟
هل عرفنا لماذا تكذب الخارجية الأمريكية وتقول إنه لا تملك دليلا على تعمد إسرائيل قتل المدنيين بالرغم من وجود آلاف الأدلة الدامغة التى تخرق عين الشمس؟، أنها تحافظ على «الوظيفة».
والسؤال: هل توجد دولة عربية فى مأمن من هذا المخطط الذى يفسره التاريخ والواقع بكل وضوح تام؟
بالقطع لا..
فلماذا لا يفهمون ولا يتصرفون وفق هذه الوقائع والوثائق؟
لأنهم مشغولون بأنفسهم أولا وأخيرا، كل على حدة، مع أنها «مصائر جماعية»، لا تنفع أن تخوضها دولة بمفردها، ضد قوى عالمية كبيرة تقودها الولايات المتحدة بكل ما تملك.
لا يعنى هذا إعلان الحرب على الولايات المتحدة وحلفائها، فلا أحد يريد حربا ولا صراعا مسلحا مع قوى عظمى، لكن أن يتبنوا سياسات ومواقف جماعية صلبة تجبر الولايات المتحدة على الاختيار بين مصالح استراتيجية ملحة مع «كتلة العرب» أو مع الدولة الوظيفية فى المنطقة، أليس هذا ما تفعله مع الصين والهند وروسيا فى تعاملاتها مع أمريكا؟
لم تتعرض أبدا الولايات المتحدة لهذا الاختيار، فهى أشبه بلاعب البوكر المحترف، الذى صنع أوراق اللعبة ووضع فيها علامات خفية تكشف له أوراق كل اللاعبين الآخرين؟
فهل يفهم العرب هذه الحقائق قبل فوات الأوان؟
لا أملك إجابة.. هل يملكها أحدكم؟