في كثير من مناطق العالم، ومنها العالم العربي، يُنظر إلى روسيا وسياساتها الخارجية نظرة مشوهة. السبب في ذلك ليس فقط المعرفة السطحية بالسياسة الروسية (وهذا أمر طبيعي تمامًا، حيث إن أي شخص ليس خبيرًا في الشؤون الروسية، لا يمكنه أن يفهم تمامًا جميع العمليات السياسية التي تتشكل في موسكو)؛ ولكن أيضًا حملات التضليل التي تقوم بها الدول الغربية، وكذلك وكلاؤهم في المنطقة. وغالبًا ما يكون الصحفيون كسالى جدًّا بحيث لا يمكنهم اللجوء إلى المصادر الأولية، ويكتفون بإعادة طباعة الأخبار المشوهة من وكالات الأنباء الغربية، التي لديها رقابتها الخاصة، ومبادئها التوجيهية الأيديولوجية؛ ولذلك يتعرض متابعو أخبار روسيا من غير المتقنين للغتها لسيل من المعلومات المتحيزة، والأحكام المسبقة.
ومن أساليب الحملات الإعلامية والنفسية ضد روسيا، التي تستهدف الدول الإسلامية، التأكيد أن موسكو تدعم اليمين المتطرف في أوروبا، المعارض للإسلام، ولكن واقع الحال ليس كذلك.
بالإضافة إلى ذلك، إذا نظرنا إلى التطورات الحالية في دول الاتحاد الأوروبي، نرى أن الحكومات الليبرالية هي التي تقمع المجتمعات المسلمة في بلدانها، على الرغم من ادعاءاتها بالحقوق والحريات. وقد تجلى ذلك بالكامل خلال المسيرات من أجل فلسطين، التي حُظِرَت، وتحولت في كثير من الدول الأوروبية إلى أعمال شغب. الليبرالية الحديثة في ذاتها لها طبيعة مزدوجة؛ من ناحية، تسمح لك بفعل كل شيء تقريبًا، بما في ذلك تغيير جنسك، ومن ناحية أخرى، فهي تحظر الدفاع عن الهوية التقليدية بكل معنى الكلمة. إن هذه المشكلة الداخلية لليبرالية هي مصدر كثير من المشكلات، وليس فقط في أوروبا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن معنى “اليسار” و”اليمين” قد تغير كثيرًا، ولم يعد له معاني الماضي نفسها، بل على العكس من ذلك. تتصرف جماعات أنتيفا في الولايات المتحدة وأوروبا مثل الميليشيات الشعبية في ظل النظام النازي الألماني، أو الفاشي الإيطالي. ففي روسيا، كان الحزب الديمقراطي الليبرالي، الذي كان فلاديمير جيرينوفسكي يتزعمه، يمينيًّا شعبويًّا، في حين كان حزب اتحاد قوى اليمين الروسي ليبراليًّا ومؤيدًا للغرب.
أما علاقات روسيا مع السياسيين الأوروبيين، فهي موجودة بالطبع، ولسنوات كثيرة كان ممثلو مختلف الأحزاب على اتصال بموسكو. حتى اليوم، ينتقد عدد من هذه الأحزاب موقف المؤسسة الأوروبية الحاكمة في بروكسل، التي تنفذ الإرادة السياسية لواشنطن على حساب مصالح أوروبا. ولكن لتوضيح الموقف، دعونا نأخذ- مثالًا- كثيرًا من السياسيين الذين يتعرضون لانتقادات في الاتحاد الأوروبي بسبب آرائهم اليمينية المتطرفة، وموقفهم المؤيد لروسيا.
في فرنسا، الشخصية الأبرز في تيار اليمين هي الرئيسة السابقة لحزب التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقًا) مارين لوبان، التي كانت منافسة جادة لإيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وهي متهمة بأن لها علاقات مع روسيا؛ فقط لأنها حصلت على قرض عام 2014 بقيمة 10.2 مليون دولار من البنك التشيكي الروسي الأول. جدير بالذكر أنها ليست الشخصية الأوروبية الوحيدة التي حصلت على قرض من هذا البنك، ولكن لسبب ما لم يُتَّهَم العملاء الآخرون بأن لهم صلات مع روسيا.
الحجة الثانية، اعتراف بعض السياسيين الأوروبيين بأن شبه جزيرة القرم أراضٍ تابعة للاتحاد الروسي، وذلك بعد عام 2014، حين تم الاعتراف بشبه جزيرة القرم جزءًا من روسيا. مع العلم أن هناك كثيرًا من السياسيين في العالم، من تركيا إلى العراق، كان لهم موقف مماثل. لا يمكن أيضًا أن يُعزى الاجتماع مع فلاديمير بوتين إلى أن ماري لوبان هي “عميل لروسيا”، حيث اجتمع كل من أولئك الذين لديهم موقف إيجابي تجاه روسيا، وأولئك الذين يعتبرون روسيا عدوًا، مع رئيس الدولة الروسية. ولا يمكن تجنب ذلك في كثير من مؤتمرات القمة والاجتماعات الرسمية. لكن منذ عام 2022، تعاون زعيم الحزب جوردان بارديلا، هو والحزب نفسه سابقًا مع حزب سفوبودا الأوكراني، الذي اتخذ مواقف معادية للروس.
حزب يميني آخر في إيطاليا، وهو “رابطة الشمال”، التقى زعيمهم ماتيو سالفيني بالفعل فلاديمير بوتين، وارتدى قميصًا عليه صورته. ومع ذلك، بعد أن أصبح وزيرًا للداخلية الإيطالية، غيّر موقفه فجأة. اتضح أن جميع أنشطته “المؤيدة لروسيا” كانت خدعة انتهازية. وفور أن تمكن من الوصول إلى السلطة العليا انقلب على روسيا، وعلاقاته معها.
أما السياسي البارز الثالث فهو خيرت فيلدرز، رئيس حزب الحرية في هولندا، الذي حصل على 23% من الأصوات في انتخابات 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. في السابق، زار خيرت فيلدرز روسيا عدة مرات، وتحدث ضد كراهية روسيا، كما دعم التعاون الروسي الهولندي، لكن بعد فبراير (شباط) 2022، أصبح موقف حزبه تجاه موسكو أكثر تحفظًا. ووصف فيلدرز “العملية العسكرية الخاصة” بأنها خطأ من روسيا، في حين حذر من جر أوروبا إلى الصراع الأوكراني. ومن المعروف عن فيلدرز تصريحاته المعادية ضد المهاجرين، في حين أن برنامج الحزب ليبرالي كلاسيكي، يستبعد الهوية الدينية، بغض النظر عما إذا كانت الإسلام، أو المسيحية، أو أي ديانة أخرى. لذلك، يبدو فيلدرز للنيوليبراليين واليسارين الجديد، الذين يدعمون الأقليات الجنسية، ولديهم- بشكل عام- موقف ضد الدولة، يبدو سياسيًّا يمينيًّا متطرفًا، مع أنه ليس كذلك.
وهناك أيضًا رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، لكن لا يمكن القول إنه ينتهج سياسة مؤيدة لروسيا؛ بل إنه يتصرف بعقلانية، وهو ينتقد كلاً من الاتحاد الأوروبي والأجندة النيوليبرالية، بما في ذلك محاولات جورج سوروس تقويض الهوية المجرية.
وبطبيعة الحال، كل هذه الحالات تعبر عن مشكلة أوروبية مشتركة: “زيادة أعداد المهاجرين من الدول الإفريقية والآسيوية الذين يحافظون على هويتهم، ويطالبون باحترامها”. وبما أن الأغلبية في أوروبا نفسها قد تخلت عن هويتها التقليدية (ومنها التقاليد الدينية، والعائلية، والوطنية)، فإن وجود العامل الإسلامي يبقي جزءًا من السكان في توتر مستمر. وتجدر الإشارة إلى أنه تاريخيًّا، كان عدد من الدول الأوروبية ينظر إلى الإسلام باعتباره تهديدًا، وفي بعض الفترات شنت أوروبا حروبًا مع الحكام والجيوش الإسلامية. وهنا يوجد اختلاف مهم وكبير عن روسيا، التي مع أنها شنت حروبًا في الماضي مع الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية، فإنها تضم مجتمعًا مسلمًا كبيرًا يشكل جزءًا عضويًّا منها. الروس المسلمون ليسوا مهاجرين، أو وافدين؛ بل إنهم مواطنون روس من السكان الأصليين؛ لذلك فإن التقاليد الإسلامية متنوعة. على سبيل المثال، ثقافات شمال القوقاز، وتتارستان، وباشكيريا، يختلف بعضها عن بعض، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدولة الروسية، ومشاعر الفخر الوطني، ومكون هويتها الرئيسة، مثل المسيحية الأرثوذكسية.
خلاصة القول أنه إذا تحدثنا عن صورة روسيا في إطار العلاقات مع أوروبا، فلا بد أن نأخذ في الحسبان أن وسائل الإعلام الغربية، وكذلك فروعها في دول الشرق الأوسط وآسيا، تحاول باستمرار تشويه صورة روسيا، ونسبة كثير من الأساطير إليها؛ ولذلك، فإن تفاعل الزعماء السياسيين الأوروبيين مع روسيا قد حدث وسيستمر، ولا يعني ذلك أنهم “عملاء” أو “تابعون” لروسيا؛ لذا ينبغي لوسائل الاعلام في العالمين العربي والإسلامي أن تتذكر دائمًا ما يقال من أكاذيب عن الإسلام والمسلمين، وعن المقاومين الفلسطينيين أيضًا، وأن الأكاذيب نفسها تُكَرَّر- تكرارًا ممنهجًا- تجاه روسيا، وسياساتها، وتاريخها، وكذلك رئيسها.