مسيرة استجابة مبدعة للتحديات»
فى الثلاثين من نوفمبر من هذا العام، يبلغ الأنبا موسى أسقف الشباب فى الكنيسة القبطية الـ 85. وأود فى هذه المناسبة الاقتراب قليلا من رجل دين غير تقليدى، لعب- ولم يزل- دورًا كبيرًا فى تاريخ الكنيسة والوطن بإخلاص وتواضع وهدوء، وتوارى من أجل الخير العام لكل المصريين.
ونظرًا لأننا تناولنا شخصية الرجل فى مقالين من قبل فى مناسبات مختلفة (راجع: الأنبا موسى المحبة والانفتاح، كذلك الأنبا موسى: الصلاح.. المصالحة.. الإصلاح؛ فى «المصرى اليوم»)، فأظن أنه قد آن الأوان لإلقاء الضوء على مسيرة الرجل بوصفه أحد البنائين/ الفاعلين الكبار فى التاريخ المصرى/ الكنسى فى نصف القرن الأخير.
بداية، إذا أردنا أن نلخص هذه المسيرة فى عنوان يكثف تفاصيلها المتشابكة التى تمتد لكثير من المساحات داخل الكنيسة وخارجها ولعديد من المجالات، فيمكن القول إنها: «مسيرة استجابات مبدعة لتحديات كبرى».
(2)
«السياق التاريخى لتأسيس أسقفية الشباب»
لقد تولى الأنبا موسى مسؤولية رعاية الشباب الكنسى فى سنة 1980، فى لحظة تاريخية غاية فى الحرج، كانت تشهد ذروة صدام بين الكنيسة والسادات.. لم تكن المهمة يسيرة وتحتاج إلى تعاطٍ شديد الحساسية. فى هذا السياق التاريخى المعقد، واجه الأنبا موسى التحدى مستعينا بكثيرين فى كيفية حماية الكنيسة/ الوطن من «شروخات» تؤججها أطراف ذات مصالح فى الداخل والخارج. كان يدرك- وقد كان لى حوار معه حول رؤيته لهذه اللحظة التاريخية الحرجة- أن مهمة الحماية لابد أن تكون مزدوجة ـ وفى آن واحد ـ لكل من: الوطن والكنيسة؛ وأستطيع أن أقول ـ كشهادة للتاريخ ـ إن الأنبا موسى نجح فى العبور بمصر: الكنيسة والوطن؛ إلى بر الأمان، خاصة مع وصول الأزمة السياسية/ المجتمعية حد الخطر، ليس بين الكنيسة والسادات فقط، وإنما بين كل الاتجاهات والتيارات والسادات، والتى بلغت ذروتها فى اعتقالات 5 سبتمبر 1981، وغياب البابا شنودة عن المشهد بسبب الاحتجاز فى الدير حتى يناير 1985.
إذن، وُوجِّه الأنبا موسى؛ ومنذ اللحظة الأولى لتوليه المسؤولية، بتحدٍ لا أبالغ إن وصفته بـ«التحدى الوجودى»، ويقينى أن هذا الاختبار التاريخى الذى واجهه الأنبا موسى وكان عمره آنذاك حول الأربعين لم يكن يستطيع أن يعبُره ما لم تتوافر لديه القدرة على ذلك.. (وبالمناسبة لم يكن هذا الاختبار إلا مقدمة لاختبارات لم تتوقف على مدى ما يقرب من 45 سنة، إذ توالت الاختبارات وتعددت فى الداخل الكنسى وخارجه، ولعل ذروتها كانت اختبار حراك 25 يناير 2011.. سوف نلقى الضوء حوله لاحقًا).
(3)
«الأنبا موسى: التكوين»
وفى هذا المقام، وحول قدرة الأنبا موسى على التعامل مع الاختبارات، لابد من الإشارة إلى عدة اعتبارات حول التكوين الذاتى للأنبا موسى ـ فى عجالة ـ وذلك كما يلى: أولًا: ينتمى الأنبا موسى إلى الطبقة الوسطى ذات القيم المدنية الأصيلة الحداثية فى مضمونها وتجلياتها فى الواقع، ما انعكس على تكوينه الدينى والثقافى. ثانيًا: عاش الرجل بوعى كامل ما جرى فى مصر من تحولات قبل يوليو وبعدها. ثالثًا: كان منفتحًا طول الوقت على الثقافة العامة، إضافة إلى ثقافته الروحية، ما أكسبه ذهنا منفتحًا وخطابًا حداثيا ومعالجات غير نمطية. رابعًا: انخراطه ـ فى وقت واحد ـ فى العمل العام كطبيب منذ تخرجه فى عام 1960، «مطببًا» أمراض الناس الجسدية ومتعايشًا مع همومهم الحياتية من جهة، وممارسًا لخدمة الشباب الروحية من جهة أخرى، أكسبه حسًّا عمليًا وزخمًا فكريًا انعكس عليه كأسقف للشباب لمدة تزيد على الأربعين عامًا تمثل أكثر من نصف عمره، أمد الله فيه.
(4)
«صورة مختلفة لرجل الدين»
قدم الأنبا موسى خلال الفترة المذكورة (أربعة عقود ويزيد) نموذجًا لرجل الدين مغايرًا ومختلفًا عن تلك الصورة النمطية الشائعة.. كما نجح خلالها فى التعامل مع التحولات الحادة التى شهدها كل من الشأن: الكنسى والمجتمعى؛ والتى كانت انعكاسًا عميقًا على واقع الشباب، انطلاقًا من قناعة بأن توفير ظروف التقدم للشباب سوف ينعكس إيجابًا على الكنيسة والوطن، لذا استحق ـ يقينًا ـ أن يكون ضميرًا لهما.. كيف؟.
.. نواصل الحديث