- 25 نوفمبر 2023
خلال اجتماع مع أعضاء مجلس الوزراء، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني)، أتابع إجلاء المواطنين الروس من غزة: “هذه مهمة إنسانية ونبيلة”. وأشار إلى ضرورة “مساعدة الأشخاص الذين يعانون من جراء الأحداث الراهنة”، واصفًا هذه العملية بأنها “واجب مقدس”، ودعا إلى مساعدة سكان غزة. ومع أن عبارة “الواجب المقدس” يمكن فهمها على أنها إشارة إلى القيم الإنسانية، فإنها تمثل في المخيلة الروسية- بشكل أو بآخر- صورة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وتاريخ المسيحية مع شهدائها ونساكها.
فلسطين في اعتقاد المسيحيين الأرثوذكس من روسيا، هي أرض مقدسة، حيث بشر يسوع المسيح وتلاميذه. في كل عام، تحديدًا في عيد الفصح، يأتي الحجاج إلى القدس للمشاركة في الخدمة الرسمية، ويسافرون أيضًا إلى أماكن تاريخية أخرى في فلسطين الكبرى، التي تغطي بعض الأراضي الحديثة في لبنان، والأردن، بالإضافة إلى كل أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، ودولة إسرائيل.
وبما أن الأرثوذكسية، مثل الإسلام، لديها عقيدة الإسخاتولوجيا الخاصة بها (علم الأُخْرَوِيَّات)، فإن الحرب القادمة بين إسرائيل والفلسطينيين، بالطبع، ليست نابعة من دوافع سياسية فحسب؛ بل لها أيضًا دافع روحي وديني، وهو ما ينعكس في تصور ما يحدث، وتمييز الأطراف وفق المبادئ الأخلاقية الدينية. وبالنظر إلى أن جيش الدفاع الإسرائيلي هاجم المستشفيات، والمباني السكنية، والمساجد، فضلا عن الكنائس الأرثوذكسية في قطاع غزة، فإن هذه الهجمات تضفي على إسرائيل طابعًا شيطانيًّا وسلبيًّا جدًّا في نظر المؤمنين الأرثوذكس من الروس.
من الواضح أن موقف قيادة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مؤيد للفلسطينيين. ونظرًا إلى أن الجيش الإسرائيلي دمّر معبدًا مسيحيًّا، فقد اعتبر الجمهور الروسي هذا الفعل عملًا شريرًا، ليس ضد الفلسطينيين بقدر ما هو ضد المسيحية.
في أكتوبر (تشرين الأول)، أرسل قداسة بطريرك موسكو وسائر بلاد الروس كيريل الأول، رسالة إلى غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث، بطريرك الروم الأرثوذكس للقدس المقدسة وكل فلسطين وإسرائيل، أعرب فيها عن تعازيه لسقوط كثير من الضحايا، وأسفه على الدمار الذي لحق بكنيسة القديس برفيريوس في قطاع غزة، نتيجة الهجمات الإسرائيلية.
لم يؤدِّ مزيد من التصعيد إلا إلى تعزيز القناعة بأن إسرائيل والولايات المتحدة، التي تدعمها، هما تجسيد للشر في وجهة نظر الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، مع أن الكنيسة الروسية لا تنظر إلى الشعبين الإسرائيلي والأمريكي وفق معايير حدية “الأبيض والأسود”؛ نظرًا إلى وجود عدد لا بأس منهم لا يدعمون تصرفات قيادتهما.
من المهم أن نفهم أن النظرة العامة إلى القضية اليهودية (الإسرائيلية) بين المسيحيين الأرثوذكس تختلف عن آراء الكاثوليك والبروتستانت. بشكل عام، البروتستانت، من وجهة نظر الأرثوذكسية، ليسوا مسيحيين، مع أنهم يدعون الإيمان بيسوع المسيح، وهذه ملاحظة مهمة؛ لأنه في كثير من الأحيان، في العالم الإسلامي، لا يفرقون بين الطوائف المسيحية المختلفة. من الجدير بالذكر أن موقف الأرثوذكس من البروتستانت لا يعني اضطهادهم، أو تعريض حياة أي فرد منهم للتهديد، نحن فقط نعتقد أن الأرثوذكسية هي الطريق القويم والإيمان الصحيح للمسيحية، في حين أن البروتستانت خالفوا هذا الطريق، تمامًا كما يوجد بعض الطوائف التي تدعي الإسلام، ولا يرى الغالبية العظمى من جمهور المسلمين أنها صحيحة الإيمان.
وبما أن اليهود، وفقًا لآراء الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، مذنبون بموت يسوع المسيح، أي الله، فإن العقوبة المذكورة سابقًا في النبوءات اليهودية وقعت عليهم “دُمِّرَ معبدهم، وهم أنفسهم منتشرون في جميع أنحاء العالم”.
يقول العهد الجديد: “فليعلم يقينًا جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا، الذي صلبتموه أنتم، ربًّا ومسيحًا، فلما سمعوا نخسوا في قلوبهم، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟ قال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس، لأن الموعد هو لكم ولأولادكم، ولكل الذين على بعد، كل من يدعوه الرب إلهنا، وبأقوال أخر كثيرة كان يشهد لهم ويعظهم قائلا: اخلصوا من هذا الجيل الملتوي، فقبلوا كلامه بفرح، واعتمدوا، وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس“. (سفر أعمال الرسل، الإصحاح الثاني، 41- 36).
وهذا يعني أنه قيل إن اليهود يمكنهم الحصول على الخلاص عبر تبني الإيمان الأرثوذكسي من خلال المعمودية. وعن أولئك الذين رفضوا الاعتراف بيسوع باعتباره الله والحق، قيل: “هنذا أجعل الذين من مجمع الشيطان، من القائلين إنهم يهود وليسوا يهودا، بل يكذبون، هنذا أصيرهم يأتون ويسجدون أمام رجليك، ويعرفون أني أنا أحببتك”. (سفر الرؤيا، الإصحاح الثالث، 9).
اليهود المعاصرون، بغض النظر عما إذا كانوا يعيشون في إسرائيل أو في دولة أخرى، ما زالوا يعتقدون أن يسوع المسيح ليس هو المسيح، وأن المسيح الحقيقي سيأتي. ومع ذلك، تعتقد الأرثوذكسية أن “المسيح” اليهودي المستقبلي لن يكون سوى عدو المسيح (الدجال). ومحاولات اليهود المتطرفين في المستقبل القريب لبناء الهيكل الثالث في موقع المسجد الأقصى (ولهذا لا بد من إقامة مراسم تطهير الجبل، حيث هناك طقوس خاصة لذبح لحم البقرة الحمراء، التي يحرق جسدها، وينثر رماده) لا يُنظر إليها إلا على أنها إشارة إلى المجيء الوشيك للمسيح (وهو في اعتقادنا نحن الأرثوذكس “المسيح الدجال”)، ومن ثم، الأزمنة الأخيرة.
وفي الوقت نفسه، هناك عدد كبير ممن يسمون بالصهاينة المسيحيين، معظمهم من بريطانيا (حيث نشأت هذه الحركة بين البروتستانت البيوريتانيين)، وكذلك الإنجيليون في الولايات المتحدة الأمريكية. يدعم الصهاينة المسيحيون دولة إسرائيل بنشاط، معتقدين أن مصير اليهود مرتبط بأحداث الكتاب المقدس.
أحد أكثر اتجاهات الصهيونية المسيحية تأثيرًا هو “التدبيرية”، وهو نظام تفسير يستخدم الكتاب المقدس لتقسيم التاريخ إلى فترات مختلفة من الإدارات أو “التدبيرات”، ويرى أن المصطلح الكتابي “إسرائيل” يشير إلى الأمة اليهودية العرقية التي نشأت في فلسطين. طُوِّرت التدبيرية في الأصل على يد الواعظ الأنجلو-أيرلندي جون نيلسون داربي (John Nelson Darby) في القرن التاسع عشر، الذي اعتقد أن المصيرين اللذين رسمها الله لإسرائيل والكنيسة المسيحية منفصلان تمامًا، حيث سيختطف الله الكنيسة ماديًّا من الأرض، وتتحول إلى فولكلور، ويبتعد عنها الأتباع، يعقبها فترة من الاضطرابات التي تنبأ بها سفر الرؤيا تسمى الضيقة العظيمة، أو “المحنة العظيمة”. وبحسب داربي، فإن الضيقة العظيمة ستبدأ بعد بناء الهيكل اليهودي الثالث على جبل الهيكل في القدس. خلال الضيقة العظيمة، وفقًا لهذا التعليم، سيتحول (144.000) يهودي إلى المسيحية، وهم من سيكشفون النيّات الحقيقية للمسيح الدجال. وهكذا، سيصبحون النواة الأساسية لتحويل جميع غير المؤمنين إلى الإيمان المسيحي. هؤلاء اليهود المتحولون البالغ عددهم (144.000) سيواجهون المسيح الدجال في المعركة النهائية المعروفة باسم هرمجدون، وسيهزم اليهود المتحولون المسيح الدجال وحدهم. بعد هذه المعركة ستنتهي سنوات الضيقة السبع، وسيعود يسوع ليهزم الشيطان ويسجنه، ويؤسس مملكة مسيانية مدتها ألف عام على الأرض.
وفقًا للإحصاءات الكمية، فإن عدد الصهاينة المسيحيين في العالم يفوق عدد اليهود من أتباع الديانة اليهودية (ولا يعترف جميع اليهود بإسرائيل كدولة). ويوجد نحو 20 مليون مسيحي صهيوني في الولايات المتحدة وحدها، وهم يرعون هجرة اليهود إلى إسرائيل من إثيوبيا، وروسيا، وأوكرانيا، ودول أخرى.
والصهاينة المسيحيون هم أيضًا من بين السياسيين المؤثرين. على سبيل المثال، وزير الخارجية السابق ورئيس وكالة المخابرات المركزية مايك بومبيو هو مسيحي صهيوني. وبسبب هذا اللوبي، وقع دونالد ترمب مرسومًا يعترف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان المحتلة، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
وهنا يمكننا أن نجد ارتباطًا معينًا بالأحداث في أوكرانيا، حيث تدعم الولايات المتحدة نظام كييف بالسلاح، ولا تهتم بالاضطهاد الديني العرقي (نظرًا إلى أن المسيحيين الأرثوذكس الناطقين بالروسية يتعرضون للاضطهاد هناك، ويتم الاستيلاء على كنائسهم بالقوة). إن إنشاء بطريركية كييف المستقلة (ما يسمى بالكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا)، التي لم تعترف بها غالبية الكنائس المسيحية الأرثوذكسية، كان له أيضًا أسباب سياسية، وكان يُنظر إليه على أنه من مكايد الشيطان، وعلامات آخر الزمان.
نرى في هذا شكلاً واضحًا من أشكال العنصرية المحددة، عندما تنظر الولايات المتحدة وإسرائيل إلى الشعوب الأخرى (وخاصة العرب والروس) باعتبارهم برابرة، أو بشرًا يمكن استخدام أي وسيلة للعنف ضدهم، لكن روسيا تمتلك جيشًا قويًّا وأسلحة نووية، في حين أن الفلسطينيين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم بفاعلية في مواجهة العدوان الإسرائيلي. ومع أن فلسطين تحظى بتعاطف الأغلبية الساحقة من شعوب العالم، فإن العالم العربي والإسلامي برمته لم يتخذ بعد قرارًا جادًا بشأن دعم هذه القضية من أجل إجبار إسرائيل على السلام.