منقول عن مركز الدراسات العربية الأوراسية
غريغوري ماتروسوفدامير موخيدينوف
رؤية يهودية للعلاقات بين العائلة الإبراهيمية في روسيا
الحاخام غِرشون كوجان
في الاتحاد الروسي، القائم على أنقاض الاتحاد السوفيتي، تطور مفهوم “الأديان التقليدية”. هذا المفهوم الذي يُقصَدُ به تلك الأديان التي تتدين بها وتتوارثها الشعوب التي تعيش في الأراضي التي كانت تسمى من قبل بالإمبراطورية الروسية، ثم أصبحت الاتحاد السوفيتي، وبعد انهياره- الاتحاد الروسي. معظم هذه الأديان هي الأديان الإبراهيمية (اليهودية، والمسيحية، والإسلام). إذا تحدثنا عن تاريخ وصول التوحيد إلى أراضي روسيا الحالية، فإن أول تجربة من هذا القبيل كانت في دولة خانات الخزر، عندما تم الاعتراف باليهودية دينًا رسميًّا، وخانات الخزر هي دولة تركية بسطت نفوذها على الأراضي الممتدة من البحر الأسود حتى بحر قزوين بمحاذاة نهر الفولغا شمالًا وجبال القوقاز جنوبًا. كان ذلك في منتصف القرن الثامن الميلادي. استمرت عملية تحول النخبة الخازارية إلى اليهودية تدريجيًّا حتى بداية القرن التاسع الميلادي.
الدين التوحيدي التالي الذي ظهر على هذه الأراضي كان الإسلام؛ ففي عام 922، اعتنقت مملكة فولغا بلغاريا الإسلام، واعتبرته دينًا رسميًّا لها. وبعد فترة قصيرة. تحديدًا في عام 988، اعتنق الملك فلاديمير الأول، المسيحية، وتم تعميد سكان مملكة كييف الروسية.
وهكذا، تاريخيًّا، بدأ التوحيد في شكل الأديان الإبراهيمية بتشكيل الخريطة الأيديولوجية لأراضي روسيا المستقبلية في وقت مبكر جدًّا. ومع أن الدين اليهودي لم يَسُد، فإنه كان ذا تأثير معين. هناك خرافة منتشرة مفادها أنه من المستحيل أن يتحول الشخص إلى اليهودية، فاليهودي يولد فقط يهوديًّا. الأمر ليس كذلك، فمكانة إبراهيم، والنظرة التي يَنظُرُإليه بها أتباع الدين اليهودي، تدحض هذه الخرافة.
مكانة إبراهيم في التوراة وفي الدين اليهودي
لا يمتلك إبراهيم في الدين اليهودي مكانة نبي فحسب؛ بل مكانة أحد الأجداد، الآباء الأوائل للشعب اليهودي، إلى جانب إسحاق ويعقوب، فهو أول شخص على وجه الأرض، تُسَمِّيهِ التوراة “عبري”- يهودي (بريشيت 13:14)، أي “عابر” إلى الجانب الآخر، من الوثنية إلى التوحيد (بيركي دي ربي إليعازر، Pirkei d-Rabbi Eliezer). وضع إبراهيم نفسه ضد كل البشرية المعاصرة له، التي كانت تعبد قوى مختلفة في هذا العالم وتؤلّهها. تتمثل مكانة إبراهيم المميزة في فهم حقيقة الله باعتباره المصدر الوحيد لكل شيء في العالم. تعد كُنية “عبري” أيضًا اسمًا عامًّا- أي من نسل إيفر “عابر”.
الصفة الأساسية للشخصية المتأصلة في إبراهيم، التي هي صفته الرئيسة، من وجهة نظر الدين اليهودي، هي الرحمة، والرغبة في مساعدة الجار. هذه هي الصفة التي لا يعتبرها الدين اليهودي مجرد صفة مصاحبة؛ ولكنه يعتبرها صفةً لا غنًى عنها في الشخص الموحد والمنتمي إلى إبراهيم.
من وجهة نظر التوراة، يرث نسل إبراهيم الصفة الرئيسة له- الرحمة والرأفة بالجار. ومن مظاهر هذه الصفة الرغبة في نشر الإيمان بالله الواحد في جميع أنحاء العالم، ولجميع سكان الأرض. يشير مفسرو التوراة، وبخاصة راشي (شلومو يتسحاقي)، إلى أن الابتكار كان مهمًّا لإبراهيم، ليس فقط لينتقل إلى التوحيد بنفسه، ولكن أيضًا لجذب الآخرين إلى ذلك، وهذا كان ابتكاره في تلك الحقبة.
ولهذا السبب، إذا اعتنق شخصٌ ما من أمة أخرى الديانة اليهودية، وأصبح بذلك جزءًا من الشعب اليهودي، فإنه يُدعى ابن إبراهيم ، الأب الأول لليهود. ومع أن بني إسرائيل ينحدرون من يعقوب (إسرائيل هو اسمه الثاني الذي أعطاه الله له)، فإن هذا الشخص يعد في وضع التبني من جانب إبراهيم وزوجته سارة؛ ومن ثم، من وجهة نظر الدين اليهودي، من الممكن أن تكون سليل إبراهيم من ناحيتين: إما أن تنتمي سُلاليًّا إلى أسرة إبراهيم، وإما أن تصبح أحد أحفاده من خلال إجراء مكافئ لإجراء التبني، الذي يمثل- في الواقع- التحول إلى الدين اليهودي، وقبول جميع وصايا التوراة، والانضمام إلى الشعب اليهودي.
وهكذا، فإن مفهوم “العائلة الإبراهيمية” يُفهَم من جانبين: سُلالي وديني. لا يمكن للمرء أن يكون سليلًا جسديًّا لإبراهيم فحسب؛ بل يمكن أيضًا أن يصبح ابنه دينيًّا من خلال التحول (Giyur)، أي اعتناق الدين اليهودي.
تروي التوراة بالتفصيل تسلسل نسب الجنس البشري والشعب اليهودي من آدم إلى موسى، وتروي كيف أن البركة التي أُعطيت لإبراهيم انتقلت إلى نسله. وفقًا للتوراة، عمل إبراهيم، المتمثل في نشر دينه، استمر من خلال الابن المولود بأعجوبة إسحاق، ثم انتقل هذا الموروث إلى ابن إسحاق، يعقوب (إسرائيل).
إظهار “الموروث الإبراهيمي” خلال سنوات الاضطهاد
من المعروف أن إبراهيم معترفٌ به قديسًا ونبيًّا ليس فقط بين اليهود، ولكن أيضًا بين ممثلي “الديانات الإبراهيمية”- المسيحية والإسلام. ينظر أتباع هذه الديانات إلى شخصية إبراهيم بوصفه رمزًا موحدًا يجسد فكرة تقديس الإله الواحد. كان هذا الأمر عاملًا أسهم في إظهار الإنسانية والمساعدة المتبادلة خلال سنوات الاضطهاد بسبب الإيمان بالله، والملاحقة الشديدة للقادة الدينيين والمؤمنين خلال حقبة الاتحاد السوفيتي.
أبرز مثال على ذلك هو تاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين خلال القمع الستاليني؛ ففي الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما أصبحت الملاحقة وحشيةً جدًّا، كانت جمهوريات آسيا الوسطى، وجزء من القوقاز (وهي مناطق ذات أغلبية مسلمة) ملاذًا آمنًا للمتدينين اليهود، وبالتحديد في طشقند، وسمرقند، ودوشنبه، حيث تمكن اليهود من تنظيم مدارس غير رسمية للأطفال، ومدارس دينية (يشيفا) يعلمون الناس فيها كيفية العيش وفقًا للتوراة. وكذلك إلى حد ما، أصبحت مدينة قازان، التي كانت آنذاك المدينة الرئيسة لجمهورية تتارستان الاشتراكية السوفيتية، مركزًا مثيلًا تمارس فيه الحياة اليهودية في الخفاء في ظل الحكم السوفيتي. ومع أن أيديولوجية الإلحاد سادت في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي، فإن النشطاء اليهود، ومن يعملون في الخفاء، وجدوا متسعًا لممارسة شعائرهم الدينية في الجمهوريات الإسلامية التقليدية، كما جاء في كتاب الحاخام إسحاق زيلبر “أن تبقى يهوديًا” الصادر بالإنجليزية تحت عنوان (To Remain a Jew: The Life of Rav Yitzchak Zilber).
ظهر العامل الديني ظهورًا غريبًا إلى حد ما خلال الحرب العالمية الثانية، في أثناء الهولوكوست (المحرقة اليهودية)، عندما كان مجرد الانتماء إلى الشعب اليهودي في الأراضي التي احتلها النازيون يعني عقوبة الإعدام، بغض النظر عن العمر والجنس. نظرًا إلى أن وصول الألمان إلى أي أرض غالبًا ما كان يعني إلغاء القيود السوفيتية، ومنها تلك القيود المتعلقة بحرية الضمير، رحب بعض القادة بالنازيين، واستخدموا الدين للتحريض على الكراهية. لكن كان هناك أيضًا زعماء دينيون لم يخشوا التحدث علانيةً ضد النازيين، وقوانينهم اللاإنسانية.
لا يسع المرء إلا أن يلاحظ الإنجاز الذي قام به قساوسة مسيحيون، مثل القس الكاثوليكي برونيوس بوكستيس من مدينة كوفنو الليتوانية، والكاهن الأرثوذكسي ألكسندر جلاغوليف من كييف. ومن الجدير بالذكر أن الأخير لم يُخفِ اليهودَ المضطهدين في أثناء الاحتلال النازي فحسب؛ بل دافع بحزم قبل ذلك، في 1911-1913، عن اليهودي مندل بيليس، المتهم زورًا بإقامة طقوس القتل. كما نفذّ رجال الدين الروس من خارج الاتحاد السوفيتي أعمال إنقاذ لليهود المعرضين للخطر، على سبيل المثال، الراهبة ماريا سكوبتسوفا، والقس ديميتري كليبينن.
قاتَل اليهود وممثلو الشعوب الإسلامية معًا على جبهات الحرب الوطنية العظمى. يتذكر الجميع بطولة الشاعر التتري والشخصية العامة موسى جليل.
تعرضت شعوب بكاملها عاشت في الاتحاد السوفيتي للترحيل، ومن بينها مجموعات عرقية كاملة تنتمي تاريخيًّا إلى الثقافة الإسلامية (الشيشان، والإنغوش، وتتار القرم). كان النظام الستاليني يُعِدُّ اليهود للمصير نفسه (وربما أكثر فظاعة). لم يتحقق هذا السيناريو بسبب وفاة ستالين عام 1953.
تفاعل “الأديان الإبراهيمية” في روسيا الحديثة
في روسيا الحديثة، ودول الاتحاد السوفيتي السابق، أصبح التعاون بين الأديان المختلفة هو الشيء الطبيعي. فهناك تعاون نشط في إطار مجلس روسيا للتعاون بين الأديان، من خلال لجنة تنسيق العلاقات بين الأعراق والأديان، تحت إشراف الرئيس الروسي.
زعماء الطوائف المختلفة على اتصال دائم بعضهم مع بعض، ويتشاركون مواقفهم مع زملائهم باستمرار.
هناك أيضًا تعاون في المجال العلمي. على وجه الخصوص، في روسيا، تُفتَح بعض التخصصات، مثل العلوم الإلهية (اللاهوتية) وتُطوَّر تطورًا كبيرًا. كما توجد جمعية لاهوتية علمية تعليمية (NOTA)، يتعاون فيها ممثلو الطوائف الرئيسة في روسيا. على وجه الخصوص، تُدرَّس العلوم اللاهوتية اليهودية في ثلاث جامعات روسية مرموقة، هي: “الجامعة الروسية الحكومية للعلوم الإنسانية، وجامعة سانت بطرسبورغ الحكومية، والجامعة العبرية”. في الوقت نفسه، غالبًا ما يعرب ممثلو جميع الطوائف عن موقف إجماعي بشأن كثير من القضايا المتعلقة بالتعليم، والأنشطة الجامعية.
وعلى وجه الخصوص، وصلت العلاقة بين المجتمعين اليهودي والمسلم إلى مستوى متقدم، فقد أصبحت إقامة مائدة إفطار سنوية خلال شهر رمضان للمسلمين الروس في المجتمعات اليهودية عادة جيدة.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، زارت مجموعة من طلاب المعهد الإسلامي في موسكو المتحف اليهودي، ومركز التسامح، خلال رحلة استكشافية بتكليف من نائب رئيس المعهد للشؤون الأكاديمية والتعليمية، رئيس إسماعيلوف.
أحد المشاركين في الرحلة كان اسمه سيد محمد أبو بكروف، وهو طالب في السنة الرابعة بالمعهد، تحدث لاحقًا عن انطباعاته على موقع الإدارة الدينية لمسلمي الاتحاد الروسي، فقال: “عندما أُبلغنا بأنه مباشرةً بعد امتحان مادة (تاريخ الأديان) عن موضوع (اليهودية)، سنزور المتحف اليهودي، وافق الجميع؛ لأنه ستتاح لنا الفرصة لنرى بأعيننا، ونعرف- بشكل أعمق- ثقافة أحد الأديان التوحيدية القديمة”.
وفقًا لما قاله الطالب سيد أبو بكروف، فقد تأثر بمدى استخدام التكنولوجيا المتقدمة لنقل أحداث التاريخ القديم. شاهد طلاب المعهد الإسلامي فيلمًا رباعي الأبعاد مدته عشر دقائق، أتيحت لهم الفرصة من خلاله للشعور بتلك الأحداث التي وُصفت في التوراة بالطوفان العظيم، والآيات التي حلت بمصر في زمن النبي موسى، وانشقاق البحر الأحمر، وغيرها. كما كان الشباب مهتمين باللهجات العبرية المختلفة، وسألوا بالتفصيل عن الأعياد، والواجبات الدينية، وأبدوا اهتمامًا كبيرًا بمعرفة تركيبة “الكنيس”. كل هذا وأكثر استطاعوا أن يروه ويتعلموه- بوضوح- في المتحف اليهودي. كما استطاعوا توسيع معلوماتهم عن الهولوكوست.
وفقًا لرأي المشاركين في الرحلة، فإن هذه الفعاليات مفيدة جدًّا؛ لأنها تساعد ممثلي المجتمعات المختلفة من التقرب بعضهم من بعض كمواطنين في وطن واحد مشترك.
تعد تجربة التفاعل بين اليهود والمسلمين والمسيحيين في روسيا مهمة جدًّا، ومفيدة لبقية المناطق الأخرى في هذا العالم. والجدير بالذكر أن النزاعات العرقية والدينية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، مع أنها تؤثر في العلاقات بين الجماعات الدينية داخل روسيا، ليست بالحرجة. حتى لو اختلف الروس من أتباع الأديان المختلفة في تقييمهم للصراع، فإن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى حدوث اشتباكات وأعمال عنف.
نظرة الزعماء الدينيين من “العائلة الإبراهيمية” إلى الصراعات بين المسلمين واليهود والمسيحيين في الشرق الأوسط، وتمكنهم من تجاوز تأثير تلك الصراعات في العلاقات بين أتباع هذه الأديان في روسيا
في البداية، يُعزَّز السلام بين الأديان من خلال تقديم صورة موضوعية لما يحدث (ومن ذلك ما يحدث في الشرق الأوسط) خالية من الخرافات والأحكام المسبقة. على سبيل المثال، يكرر الكثيرون الخرافات القائلة إن اليهود يعاملون المسلمين معاملة سيئة. من السهل أن نرى أن الأمر ليس كذلك؛ من خلال العلاقات الجيدة بين اليهود والمسلمين في الكثير من البلدان..
إن إبرام الاتفاقيات “الإبراهيمية”- إقامة علاقات دبلوماسية بين دولة إسرائيل وعدد من الدول العربية، كالإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والسودان- يُنظر إليه في البيئة اليهودية نظرة إيجابية لا لبس فيها. وقد أثار اهتمام السكان اليهود، وخاصة الشباب منهم، بزيارة الدول العربية. حتى الآن كان كثيرون يخشون السفر إلى الدول العربية، مُشيرين إلى توتّر العلاقات معها.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، سافرت مجموعة قوامها أكثر من 600 طالب يهودي من روسيا إلى دبي. خلال هذه الرحلة، أقيم هناك حفل زفاف يهودي وفقًا لأحكام التوراة. أشرف على إقامة حفل الزفاف الحاخام الأكبر لروسيا بيرل لازار.
كما أن مقر إقامة زعيم يهود روسيا غالبًا ما يزوره مختلف قادة الدول العربية، كما أنه كان يُزَارُ قبل تطبيع علاقات عدد من الدول العربية مع إسرائيل. عُقِدَت هذه اللقاءات على الدوام في جوٍ مفعم بالصداقة، والتفاهم المتبادل.
في الختام، نلاحظ أن العلاقة بين الطوائف في روسيا تتطور سلميًّا. يعود الفضل الكبير في ذلك إلى موقف الدولة المهتمة بالسلام بين الأديان، والحد من الخلافات. مزيد من الحوار بين الأديان (ليس فقط بين ممثلي الأديان الإبراهيمية) يفتح آفاقا كبيرة، فهناك مشروعات تعاون في المجالات التربوية، والثقافية، والتجارية، وينبغي حصر الخلافات والصراعات في إطارها السياسي لا الديني، لأن ما يحدث في الشرق الأوسط ليس صراعا بين اليهودية والإسلام، وهكذا نحن نراه كيهود روسيا.
رؤية أرثوذكسية للعلاقات بين العائلة الإبراهيمية في روسيا
الراهب غريغوري ماتروسوف
أساس أي حوار يتمثل في وجود اثنين على الأقل من المحاورين الذين هيئوا أنفسهم للتحاور، أي لديهم رغبة أو حاجة إلى سماع المحاور وفهمه. في سياق الحوار بين الأديان، يجري الحديث عن عملية معقدة جدًّا؛ لأن أي دين في طبيعته هو ظاهرة فريدة. وتكمن الصعوبة الرئيسة في أن الدين يتحدث عن موضوع لا يستطيع العقل البشري فهمه. في هذا المقال، سنقدم بعض الأحكام المفاهيمية للحوار والتفاعل الإسلامي المسيحي، التي هي ثمرة لخبرة أكثر من عشرين عامًا في دراسة التقاليد المسيحية، وعشرة أعوام من المعرفة عن الإسلام، فضلًا عن الخبرة في الأنشطة العملية في مجال الحوار المسيحي الإسلامي.
المسيحية والإسلام، بوصفهما ديانتين إبراهيميتين، ولهما بعض المُسَلَّمَات الأساسية المتشابهة، يمثلان في الوقت نفسه نظامين عَقَديين معقدين، مع اختلافات جوهرية فيما بينهما. يتطلب فهم هذين النظامين كثيرًا من الوقت، والجهد، والتحضير الجاد. ومع ذلك، يمكن القول إن هناك أحكامًا أساسية تؤدي دورًا رئيسًا على المستوى العَقَدي، تعرّف هذه الظاهرة (الدين) أو تلك تعريفًا كليًّا حتى مستوى معين. فلنلقِ نظرة على بعض الأحكام الأساسية للإسلام والمسيحية، الضرورية لتحديد الأحكام المفاهيمية في سياق العلاقات بين الأديان.
الأحكام الأساسية في الإسلام والمسيحية
من بين المصادر العَقَدية للإسلام، بالطبع يجب أن نخص في المقام الأول القرآن، كلام الخالق، الذي من خلاله يُحدَّد النظام الذي يجب اتباعه، والذي أنزله الخالق على النبي محمد. “القرآن هو الوحي الذي أنزله خالق الكون وفاطره إلى البشرية. هذه هي رسالة الخالق للإنسان، ومن ثم فهي مهمة جدًّا لنا”[1]. بهذا التعريف، الذي يُستَفتح به (القرآن الكريم)، يتم التعبير- بإيجاز- عن التعاليم الكلاسيكية للإسلام عن هذا الكتاب المقدس.
كتب الأستاذ الجامعي البروفسور أ. مقراني:
“في الإسلام، الذي هو دين توحيدي، يعد القرآن حلقة وصل أساسية لفهم التجربة الدينية للمسلمين. للقرآن مكانة خاصة في الحياة الدينية الإسلامية للفرد، وللمجتمع بأسره، وله أيضًا مكانةً خاصةً في قلوب الإخوة والأخوات الذين يتشارك المؤمن معهم المنافع الروحية، بحيث تزداد المعرفة بالنور الإلهي[2]“.
يتحدث القرآن عن خلق العالم، والإنسان، وعن جمال الخليقة وتنوعها، والحاجة إلى معرفة العالم الذي خلقه الله، وهو ما تم التعبير عنه في الآية التالية: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” – (سورة الحجرات، الآية 13).
يتحدث الإنجيل عن الحب بين الناس، بغض النظر عن أصلهم وموقعهم “تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ” – (مرقس 12:31).
مع أن الأوامر في الكتب المقدسة للمسيحية والإسلام واضحة، فإن تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين معقد جدًّا، وغالبًا ما يكون مؤلمًا. قدم أحد المؤرخين، خلال تحليله للعلاقة بين المسيحية والإسلام، التعريف التالي:
لم يجد الإسلام والمسيحية إمكانية للاعتراف المتبادل أحدهما بالآخر على أنهما ديانتان مختلفتان ومستقلتان، فشرعا في “حوار المعركة”. في ظل عدم قدرة الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الإسلامية على الاستماع إحداهما إلى الأخرى من أجل تنظيم حياة الناس في سلام وأخوة، تقاتلت الإمبراطوريتان حتى دمرت إحداهما الأخرى. في الوقت نفسه، وبعيدًا عن الخلافات اللاهوتية، والمواقف السياسية المعادية، أقيم حوار بين أتباع الديانتين، أو بالأحرى، بين القيم الدينية والثقافية التي يمثلونها[3].
في رأينا، أحد الأسباب الرئيسة لهذا الموقف هو الجهل المتبادل بدين الآخر، ومن ثم، فإن دراسة القرآن، وهو المكون الأساسي الذي يشكل جوهر الدين الإسلامي في هذه الحالة، تبدو ضرورية؛ من أجل إيجاد طريقة صحيحة وفعالة لفهم الإسلام، وفهم طريقة التفكير والسلوك لدى المسلمين فهمًا أفضل، وكذلك من أجل الحوار، أو بعبارة أدق، من أجل التفاعل والتعاون مع العالم الإسلامي. يمكن قول الشيء نفسه عن الإنجيل أو الكتاب المقدس، اللذين يجب دراستهما بعمق وحيادية من أجل فهم المسيحية. هاتان المهمتان صعبتان جدًّا. في الوقت نفسه، يستمر التعقيد عندما يكون المرء ضمن دين ما، أو خارجه.
الحجج المؤيدة والمعارضة في الإسلام والمسيحية
طور الإسلام والمسيحية جنبًا إلى جنب، على مدى مئات السنين من وجودهما، كثيرًا من الحجج “المؤيدة” و”المعارضة”، التي تؤكد صواب الذات، وتتحدث عن أخطاء معينة للخصم، ولكن في رأينا، النقاش بشأن جوانب مختلفة من العقيدة ليس مثمرًا، على وجه التحديد لأننا نتحدث عن إيمان لا يمكن إثباته، ونذكر هنا بعض الأمثلة.
حجة الإعجاز في القرآن والإنجيل
من الأمثلة البارزة في هذا الصدد تعاليم إعجاز القرآن. أساس هذه التعاليم موجود في القرآن نفسه:
“وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ” – (سورة البقرة، الآيات 23- 24)
تتوافق هذه التعاليم بالتأكيد مع نظرة المسلمين إلى القرآن على أنه كلام الخالق عز وجل، الذي لا يمكن مقارنته- بحكم هذه الحقيقة- بأي فكر للعقل البشري، أي مع كلام الخلق، وليس الخالق. وهكذا، على سبيل المثال، يقول أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) عن إعجاز القرآن:
“ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا، وأشد تلاؤمًا وتشاكُلًا من نظمه…. فتفهَّم الآن، واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنًا أصح المعاني؛ من توحيد الله- عزَّت قدرته- وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته؛ من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء في موضعه الذي لا يُرى شيء أولى منه، ولا يُرى في صورة العقل أمر أليق منه، مُودعًا أخبار القرون الماضية“[4].
في الوقت نفسه، فيما يتعلق بالقارئ من الجانب الآخر، غير المسلم، حتى إذا كان يجيد اللغة العربية إجادة كاملة، فإن وجهة النظر هذه ليست واضحة. بالنسبة للمسلم، هذه مسألة إيمان تتوافق بسهولة مع النظرة الإسلامية العامة للعالم.
من خلال تجربتي الشخصية، أستطيع أن أقول إنه ليس من السهل دائمًا رؤية جمال النص القرآني، بل إنه من الصعب الشعور بإعجازه، وأن لا شيء يضاهيه. يجب أن أعترف بأن تأثير القرآن فيَّ يتغير جذريًّا عندما أتلوه، أو أستمع إليه بلغته الأصلية، أي باللغة العربية، لكن هذا، أولًا وقبل كل شيء، يغير تأثير شكل النص، الذي يأخذ الجمال والشكل العضوي، إلا أن هذا الجمال الخارجي لا يؤثر في محتوى النص الذي يبدو أحيانًا غير متناسق، أو حتى متناقضًا. هذا هو انطباعي الشخصي كشخص يريد أن يفهم كيف أن هذا النص يعد مقدسًا، ليس فقط على مستوى العقيدة؛ ولكن حتى بوصفه كتابًا كُرست لدراسته كثير من التفاسير والتأملات. اسمحوا لي أن أقتبس من أحد المجادلين البروتستانت المشهورين، جون غيلكريست، الذي يوضح تجربته مع القرآن، قائلًا إنه عندما قرأ القرآن ودرسه، وتعلمه بعمق، تغير موقفه من هذا الكتاب:
“يزداد تعظيم القرآن كلما عرفته أكثر فأكثر. قبل أربعة عشر عامًا، تعلمت القراءة باللغة العربية لأول مرة، ومنذ ذلك الحين اكتسبت معرفة محدودة جدًّا باللغة العربية. ومع ذلك، كان هذا كافيًا لجعل القرآن ينبض بالحياة بالنسبة لي. لقد ساعدتني كلماته الحادة، وأسلوبه السجعي، واختياره للكلمات على فهم سبب إبهاره لأولئك الذين يعتبرونه آخر كلام الخالق للبشرية… أعتقد أن القرآن كتاب فريد من نوعه. وفي أي عصر، سيكون الأمر كذلك، خصوصًا إذا وضعنا في بالنا أن هذا الكتاب كُتِبَ في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد. مع مرور الوقت، تمكنت من تقييم ليس فقط تناسقه الرائع؛ ولكن أيضًا نبضات قلبه التي تسود كل صفحة”[5].
في المسيحية، لا يوجد مفهوم “الإعجاز” النصي في الكتاب المقدس. في الوقت نفسه، هناك مفهوم “الإلهام الإلهي”، الذي يتمثل في الاعتراف بالحرية الشخصية للمؤلف الذي ألف كتابًا مقدسًا. في الوقت نفسه، يعتقد المسيحيون أن هذا النص أو ذاك قد كُتب بـ”توجيه” أو تأثير من الله؛ مما يعطي هذا النص أصالة عَقَدية، وعصمة من الخطأ. ومع ذلك، في المسيحية، كانت ولا تزال هناك محاولات من خلال تحليل الشكل الخارجي للنص من أجل العثور على دليل على الإلهام الإلهي. فيما يتعلق بالسياق العَقَدي “الداخلي” للمسيحية، فإن هذه البراهين والحجج ليست بالمهمة، ولكن في سياق “المجادلات”، أو الحوار بين الأديان، تأخذ هذه الدراسات أهمية خاصة.
يعد العالم الروسي إيفان بانين (1855-1942) أحد الباحثين البارزين في علم النقد النصي للإنجيل، وعلم الأعداد، وقد وُلد في روسيا، ثم درس في ألمانيا، ثم أكمل دراسته في جامعة هارفارد وتخرج فيها. اكتشف إيفان بانين أنماطًا رياضيةً فريدةً للنص الإنجيلي، وكرس أكثر من 50 عامًا من العمل الشاق لهذا الاكتشاف. يكمن جوهر اكتشافه في أنه في النص الإنجيلي الأصلي (العبري للعهد القديم، واليوناني للعهد الجديد) كُتبت كل كلمة- تقريبًا- بطريقة فريدة وغامضة بحيث ترمز إلى الرقم 7، الذي يعد أحد الأرقام الرئيسة لكوننا ونظامنا.
ولنعطِ مثالًا صغيرًا على هذه الأنماط. يحتوي إنجيل متّى في فصله الأول على قصة عن سلسلة نسب المسيح. تغطي الآيات الإحدى عشرة الأولى الفترة الزمنية بدءًا من إبراهيم إلى الهجرة إلى بابل. تحتوي هذه الآيات على 49 = 7 × 7 كلمة، وعدد الحروف فيها 266 = 7 × 38، منها 140 = 7 × 20 متحركة، و126 = 7 × 18 ساكنة، وعدد أسماء العلم 35 = 7 × 5، للمذكر 28 = 7 × 4، إلخ. هذه الأنماط العددية المماثلة تتخلل نص الإنجيل بكامله، ومن ثم، وفقًا لبحث إيفان بانين، من المستحيل إزالة حرف واحد من النص دون الإخلال بالنمط، وهو أمر صعب جدًّا، وفقًا لنظرية الاحتمالات، ومن المستحيل تمامًا تخيل أن مؤلفي الكتب الإنجيلية المختلفين يستطيعون بدون مساعدة الله تركيب هذا النص[6].
مثال آخر من اكتشافات إيفان بانين، هو وجود “خصائص الشكل التسلسلي”. هذا يعني أن هذه الخصائص موجودة في بنية الكلمات التي تُفصَل بعضها عن بعض بمسافة كبيرة. الكلمات ذات خاصية الشكل التسلسلي، مبعثرة في مختلف أسفار الكتاب المقدس، وهي ليست محصورة في مقطع محدد لنص ما.
أسماء أولئك الذين كتبوا الكتاب المقدس مبعثرة في جميع أنحاء الكتاب المقدس بعيدة بعضها عن بعض. والمثير للدهشة أن الرقم “7” يظهر حتى في هذه الأسماء المبعثرة. عدد الأشخاص الذين كتبوا العهد القديم المذكور في الكتاب المقدس هو 21 أو 3 × 7. القيمة العددية لهذه الأسماء العبرية الـ21 هي أيضًا من مضاعفات العدد 7، فهي تساوي 38080، أو 544 × 7. من بين هذه الأسماء الـ21 في العهد الجديد، ذُكِر موسى، وداود، وسليمان، وإشعياء، وإرميا، ودانيال، ويونس. المجموع 7. القيمة العددية لهذه الأسماء السبعة 1551، أو 222 × 7. ورد اسم إرميا في 7 كتب من العهد القديم، في 7 أشكال مختلفة من اللغة العبرية، 147 مرة بالضبط، أو 21 × 7. ورد اسم موسى، الذي كتب السفر الأول، في الكتاب المقدس 847 مرة، أو 121 × 7[7].
وهكذا، في جعبة المسيحيين، إذا رغب المرء في ذلك، يمكن أيضًا أن نجد حقائق وحججًا مدهشة جدًّا تتحدث عن إعجاز الكتاب المقدس والإنجيل، وتفردهما بذلك. في الوقت نفسه، نلاحظ أن التعاليم في المسيحية لا تحتوي على تعليم رسمي عن الإعجاز النصي في الكتاب المقدس. بالإضافة إلى ذلك، يظل الإنجيل هو الإنجيل عند ترجمته إلى أي لغة، ويمكن قراءته بأي لغة.
تلخيصًا لهذه المسألة- في رأينا- في هذه الحالة، يمكن القول إنه عندما يكون لكل طرف حجته الخاصة- إذا كان الشخص يؤمن بأحكام عقيدته- فإنها ستكون سببًا كافيًا لعدم الشك في صحة النص المقدس لدينه وصدقه.
هناك مثال آخر يتعلق أيضًا بأسس الإيمان، لا يمكن إثباته رياضيًّا. والحديث هنا عن بعث المسيح.
حجة صلب المسيح وبعثه في القرآن والإنجيل
جاء في القرآن:
“وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا” – (سورة النساء، الآية 157).
بناءً على هذه الكلمات ومثيلاتها في القرآن، فإن وجهة النظر الإسلامية في هذه المسألة هي أن الله خلص المسيح، وبدلًا منه صُلب شخصٌ آخر يشبه المسيح.
بمناقشة وجهة النظر هذه، يستشهد القس الأرثوذكسي جورجي ماكسيموف بعدد من شهادات المؤرخين القدماء الذين عاشوا في القرن الثاني للميلاد. هنا أقتبس “فيما يتعلق بموت المسيح، نرى الشهادات التالية:
كتب لوقيان السميساطي Lucian of Samosate (عام 160) أن يسوع المسيح “صُلب في فلسطين بسبب أنه أسس هذه العبادة الجديدة (المسيحية)”. سيلسوس (عام 150)، معتقدًا أن صلب المسيح عار على المسيحية، يصر، متحدثًا إلى المسيحيين: “بالطبع، يجب عليكم ألا تقولوا إنه تحمل هذه المعاناة فقط من أجل الخطائين، في الواقع هو لم يعان؛ كلا، يجب عليكم أن تعترفوا بأنه عانى”. كما كتب مارك كورنيليوس فرونتون (عام 140): “يقال أيضًا إنهم (المسيحيون) يكرمون شخصًا عوقب على جريمة بعقوبة مفزعة، ويكرمون شجرة الصليب الشريرة[8]“.
في رأينا، في هذه الحالة، يجري الحوار على مستويات مختلفة؛ لذلك، لن تصل بنا الحجج إلى قاسم مشترك. يستشهد الأب جورجي ماكسيموف بالأدلة التاريخية، ويتغاضى عن أننا في هذه الحالة أيضًا نتحدث عن الإيمان. ومن وجهة نظر المؤمن، الرب قادر على فعل كل شيء. بغض النظر عن مدى التناقض الذي قد يبدو عليه الأمر، ولكن حتى من وجهة نظر المسيحي، يمكن أن يكون الله “بديلًا للمسيح”. بالنسبة للقدرة الإلهية المطلقة، فهذا ليس بالأمر الصعب. شيء آخر هو أن هذا الأمر سيكون بمنزلة مسيحية مختلفة تمامًا؛ لأن الإيمان ببعث المسيح هو أساس كل المسيحية؛ لهذا يكتب الرسول بولس: “فَإِنْ كَانَتْ قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَقُمْ أَيْضاً! وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، لَكَانَ تَبْشِيرُنَا عَبَثاً وَإِيمَانُكُمْ عَبَثاً” – (1 كو 15: 13- 14).
لكن في الوقت نفسه، لا يمكن أن تكون الأدلة التاريخية حججًا “قويةً” في هذا الأمر؛ لأن المسيحيين يؤمنون بما هو مكتوب في العهد الجديد، ويؤمن المسلمون بما هو مكتوب في القرآن.
فهمُ الألوهية
يمكننا الاستمرار في سرد قائمة الأحكام العَقَدية المختلفة للمسيحية والإسلام، التي تسبب الحيرة وسوء الفهم لدى ممثلي الديانات الأخرى. ولا عجب في هذا؛ فالعقل البشري لم يُعطَ فهم الألوهية. يمكن للإنسان أن يؤمن فقط بالوحي الذي ينزل من الله. بالطبع، يسعى الإنسان دائمًا إلى تفسير الظواهر باستخدام العقل. من ناحية أخرى، الطبيعة البشرية ترغب في معرفة السر، لكن هذا اللغز أرفع من وعي الإنسان.
لكلٍ من الإسلام والمسيحية مجموعةٌ معينةٌ من الألغاز التي لا يمكن تفسيرها بالتحليل البسيط. السر المركزي هو الرب، وهو مُبهَم. على مجرى التاريخ، يظهر الرب نفسه للإنسان بدلالات متعددة، لكن جوهر الله لا يمكن فهمه. يسعى المسلمون والمسيحيون- بطريقتهم الخاصة- إلى التقرب إلى الله، وبطريقتهم الخاصة يريدون أن يفهموا ويعرفوا خالقهم. لكن حتى ممثلو الأديان البارزون الذين لديهم صلة قوية مع الرب يشهدون أنه من المستحيل التعبير بلغة بشرية، ليس فقط عن جوهر الرب، ولكن أيضًا عن تجربتهم الشخصية الحقيقية التي مروا بها.
ومثالًا على ذلك، يمكننا أن نستشهد بظاهرة الحياة، كم هي مألوفة وغامضة جدًّا. ما الحب؟ هل يمكن وصف ماهيته أو نقله بلغة البشر؟ يعرف أي شخص حاول وصف هذا الشعور أو تعريفه مدى صعوبة ذلك، بل استحالته. لغتنا لا تسمح لنا بالتعبير والنقل الكامل لكمية المشاعر والتجارب والأحاسيس المرتبطة بالحب. أي وصف شاعري رائع وموهوب لن يكون إلا انعكاسًا باهتًا للواقع. سيكون الاختلاف كما لو كنت تنظر إلى منظر طبيعي في لوحة ما، أو تجد نفسك بالفعل في الطبيعة المرسومة في اللوحة.
بالطريقة نفسها، ولكن مع اختلاف أكبر بكثير، تختلف أي محادثة أو وصف ما هو الله عن حقيقة الجوهر الإلهي. تستخدم التجربة اللاهوتية المسيحية مصطلحًا خاصًا للتعبير عن الجوهر الإلهي من خلال النفي، الذي يشير إلى اتجاه خاص في اللاهوت الأرثوذكسي. نحن نتحدث عن اللاهوت الأبوفاتي (بالإغريقية القديمة ἀποφατικός “نفي”)، أو اللاهوت السلبي- الطريقة اللاهوتية، التي تتكون من التعبير عن الجوهر الإلهي من خلال الإنكار المستمر لجميع التعاريف الممكنة له على أنها لا تنطبق عليه، وإنكار معرفة الرب من خلال الفهم لما هو ليس عليه. نرى هنا اعترافًا واضحًا للعقل البشري باستحالة فهم الله والتعبير عنه بمصطلحات موضوعية. في الإسلام، فكر المعتزلة والصوفية في هذا الاتجاه نفسه.
الحوار بين الأديان
بناءً على الأفكار المذكورة أعلاه، نصل إلى الخلاصة التالية: حدود الحوار بين الأديان يجب أن تمتد إلى ما هو أبعد من الخط الذي دائمًا ما يصل إليه أولئك الذين يديرون هذا الحوار. في كثير من الأحيان، يخضع المشاركون في الحوار لإغراءات معينة قد تؤدي إلى عكس النتيجة المرجوة. أنا مقتنع بأن هدف الحوار على المستوى الفكري يجب أن يكون مهمة ذات شقين؛ الشق الأول: إيضاح عقيدتك. والثاني: فهم عقيدة الشخص الذي تتحاور معه. في الوقت نفسه، يجب على كل من أجرى هذا الحوار أن يفهم- بوضوح- أنه لا الشق الأول ولا الثاني ممكنان بشكل كلي؛ لأن أقوى عامل للفهم والإدراك- كما قلنا- هو مسألة الإيمان. ويبدو أن هذا القول يقوّض جوهر الحوار، لكنه ليس كذلك، والسبب كالتالي: لا يمكن شرح وفهم سوى المكون العقلاني لما نسميه النظام العَقَدي، أو المكون العَقَدي للدين. لا يمكن فهم جوهر العقيدة فهمًا منطقيًّا. الدين يتحدث عن الرب. الرب في جوهره غير مُدرَك للإنسان الذي هو من صنعه، فليس من قبيل المصادفة- على سبيل المثال- أن يشترط الإسلام من الإنسان- أولًا وقبل كل شيء- اتباع الأوامر، والخضوع والإخلاص للرب. قال الله لإبراهيم:
“إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” – (سورة البقرة، الآية 131)
تتحدث المسيحية عن الإيمان: “مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ” – (مرقس 16: 15-16).
إن الصالحين من العهد القديم، الذين كانوا في الواقع على صلة قوية بالله، لم يتمكنوا حتى من الاقتراب من معرفة جوهر الإله. في العهد القديم، استُخدمت كلمة “إيمان” بمعنى “الوفاء”. طلب الرب من الإنسان أن يكون وفيًّا في عبادة الإله الواحد الحقيقي، وألا يزيغ إلى عبادة الأصنام. على الرغم من المظاهر الكثيرة والواضحة للوجود الحقيقي للإله في الزمن الذي عاش فيه شعب الله المختار، عندما كان من الظاهر أنه لا توجد حاجة إلى دليل إضافي، فإن تاريخ الشعب اليهودي مملوء بهذا الزيغ؛ ومن هنا نستنتج أنه حتى البراهين المباشرة على حقيقة الإيمان المرسلة من الله نفسه، ليست ضمانًا للإيمان الصحيح، والعبادة الصحيحة.
لننتقل- بإيجاز- من التأملات اللاهوتية إلى الوقت الحاضر.
التجربة الروسية في سياق التفاعل بين الأديان في الوقت الحاضر
تمتلك روسيا ثروة من التجارب الإيجابية للتفاعل السلمي، وآلاف السنين من التعايش بين ممثلي الديانات المختلفة على أرض واحدة. طوِّرَت خوارزميات تطبيقية، وعُثرَ على مخططات تفاعل فعالة في بعض المناطق. يمكن دراسة هذه التجربة ونقلها الى خارج روسيا. بالحديث عن التجربة الفريدة للتعايش الإسلامي المسيحي، الذي استكمل مفهومه في القرن التاسع عشر، كتب أحد المؤلفين المعاصرين: “في غضون عقدين من الزمن فقط، ومن خلال جهود مئات من العلماء المسلمين والمُفتين والمؤلفين والمدرسين والصحفيين والشخصيات العامة، أُنشِئَ مفهوم فريد للمجتمع الحضاري الأرثوذكسي الإسلامي، وأُدرِجَ في الوعي الجماهيري، هذا المفهوم الذي أكمل طريقًا شُرعَ في شقه منذ قرون من أجل التقاء ثقافتين إحداهما مع الأخرى، وأسس هذا المفهوم ضرورات لا جدال فيها لتحقيق التسامح، والاحترام المتبادل، والتضامن في العلاقات بين أتباع الديانتين العظيمتين”[9].
أصبح التفاعل بين الأديان في عصرنا أكثر أهمية. في رأينا، نحن بحاجة إلى الحديث عن اتحاد إستراتيجي بين الإسلام والمسيحية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المقومات الأساسية لهذا الاتحاد موضوعية. المقوم الرئيس هو أن المسلمين والمسيحيين يؤمنون بخالق واحد للسماء والأرض.
الاستنتاج
بتلخيص هذه الأفكار والأمثلة المعطاة وترجمتها إلى مستوى الحوار العملي والتفاعل بين الأديان، يمكن استخلاص الاستنتاجات الرئيسة التالية:
- بالأخذ في الحُسبان الأهمية الاستثنائية لجميع جوانب العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في العالم الحديث- روحيًّا وعَقَديًّا وعمليًّا، أعتقد أن هناك حاجة ملحة إلى تطوير إستراتيجية مناسبة للتفاعل بين المسيحيين والمسلمين في جميع أنحاء العالم. لتطوير هذه الإستراتيجية يجب أن يشارك المسيحيون والمسلمون والعلماء وعلماء الدين والمتخصصون في مختلف المجالات.
- يمكن أن تصبح هذه الإستراتيجية، بل يجب أن تصبح أساسًا فهميًّا ودليلًا عمليًّا في المجالات المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات المسيحية الإسلامية.
- ينبغي أن تستند هذه الإستراتيجية إلى المبادئ الأساسية التالية:
أ) لا تخضع الأسس اللاهوتية والعَقَدية المسيحية والإسلامية للنقد، وهي خارج مضمون هذه الإستراتيجية.
ب) في الوقت نفسه، وانطلاقًا من البيان العَقَدي، الذي لا يجادل فيه لا المسيحيون ولا المسلمون، وهو أن خالق العالم هو الرب، وقد خلق الناس لأهداف سامية على أسس عادلة وأخلاقية، قد يكون من الضرورة التعاون والتفاعل في المجالات المهمة في العالم الحديث، والمجتمع الحديث. أحد هذه المجالات هو مجال الحفاظ على الأخلاق، وتعزيزها في المجتمع. الحديث يدور هنا عن القيم العائلية التقليدية، والمعارضة المشتركة للإجهاض، وما إلى ذلك، وهذا يشمل التفاعل في المجال الاجتماعي، وتكييف المهاجرين، ومساعدة الفقراء والمرضى، وكذلك المجال الذي له أهمية خاصة بلا شك، وهو المواجهة المشتركة لتحديات عصرنا، مثل الإرهاب والتطرف بكل مظاهره، ومكافحة الأوبئة، وكذلك حل المشكلات البيئية.
تُظهر قائمة واحدة من التحديات والتهديدات مدى أهمية التفاعل المشترك على نطاق عريض بين المسلمين والمسيحيين في العالم الحديث، على جميع المستويات الإقليمية والدولية.
رؤية إسلامية للعلاقات بين العائلة الإبراهيمية في روسيا
الإمام دامير موخيدينوف
يطلق اسم الأديان الإبراهيمية عادة على تلك الأديان التي تنتمي إلى تقاليد أنبياء الشرق الأوسط، بدءًا من إبراهيم، حيث يُذكر هو وعائلته على أنهم مؤسسو هذا التقليد الديني في كتبهم المقدسة. هذه الأديان هي اليهودية، والمسيحية، والإسلام، حسب ترتيب ظهورها التاريخي. في الوقت نفسه، فإن هذه الأديان- حسب التصنيف الحالي لها في علم الأديان، ومن ذلك المجموعة التي تندرج ضمنها- تُصنَّف على أنها “ديانات إبراهيمية”، ومع أن هذا التصنيف يعد دقيقًا بشكل عام، فإنه يعاني النقصان، ووجود بعض الأعراف التاريخية.
مفهوم “العائلة الإبراهيمية” من وجهة نظر ممثلي الأديان في روسيا
وفقًا لهذا الوصف، تجتمع هذه الأديان في الصفات التالية: اعتمادها على التقاليد الأدبية والتاريخية العامة والواسعة، وعلى العقيدة التوحيدية، وعلى الاعتراف المتبادل بالأصل المشترك، ومستوى معين من التسامح الديني المتبادل. ومع ذلك، فإن رأي علم الأديان هذا، لا يأخذ في الحسبان تلك الجوانب من الأديان الإبراهيمية، وخاصة الإسلام، التي ينعكس في مفهومها الخاص مصطلح “العائلة الإبراهيمية”. نصت دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) التي أُسِّسَ عليها الإسلام، على إعادة دين التوحيد الحقيقي الذي يعود تاريخه إلى إبراهيم على وجه التحديد. تعد عائلة (نسل) إبراهيم وغيره من البابوات (البطاركة)، الذين هم الأجداد الأوائل للشعوب الإسلامية، من أوائل المسلمين. في الوقت نفسه، كان يُقصد بالمسلمين أنهم موحِّدون وفقًا لما يسمى بالتقليد الإبراهيمي، أي التقليد النبوي في الشرق الأوسط، الذي نشأ من المجموعات الناطقة بالسامية في شرق البحر الأبيض المتوسط، بلاد الرافدين (بقيادة النبي إبراهيم) ومصر (بقيادة النبي موسى).
ورد في القرآن الكريم ذكر آل إبراهيم على وجه الخصوص، حيث قال تعالى:
“أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا”[10].
يُقال إن عائلة إبراهيم تلقت الكتاب المقدس من الله، وهذا يشير إلى تقليد مُوَحَّد في الإسلام القرآني (على عكس “الإسلام التاريخي” الذي يميزه علماء الدين والمستشرقون). وهكذا، في مفهوم “العائلة الإبراهيمية”، يجد المسلمون، وبخاصة مسلمو روسيا، انعكاسًا للوجود التاريخي للإسلام باعتباره تقديسًا للإله الواحد، والدخول معه في معاهدة (اتفاق). تُفهم دعوة النبي محمد، “خاتم الأنبياء”، على أنها استعادة للشريعة الدينية ذاتها التي أُعطيت لإبراهيم وورثته في الكتاب المقدس، ثم نُسِيَ جزء منها، وحُرِّفَ الجزء الآخر من جانب الأتباع. في الإسلام، يرتبط ذكر هذا الكتاب المقدس بلفظ “أهل الكتاب”، الذي يقصد به أتباع تلك الاتجاهات الدينية من “التقليد الإبراهيمي”[11] الذين لم يصبحوا مسلمين بعد آخر وحي أنزله الله (إلى محمد). في مفهوم “أهل الكتاب”، لا نرى تجسيدًا لسياسة التسامح الديني في الدولة العربية الإسلامية الأولى فحسب؛ بل نرى أيضًا اعترافًا بتقارب الأديان الإبراهيمية في إطار التقاليد الإسلامية نفسها.
دعوة محمد، لكونها عالمية في مغزاها، تحققت في ظروف تاريخية، وأطر مفاهيمية معينة، حيث كانت هذه “القيود”، بالتحديد أو بالأدق، التجذر في التاريخ، هو ما سمح لهذه الدعوة بأن تكون عالمية في رسالتها. لم يكن سكان مكة في الجاهلية (قبل الإسلام) وثنيين حتى النخاع، أي من أتباع الشرك الصريح، وإنما كانوا في البداية مُوَّحِدين، ثم وقعوا في الشرك. في الوقت نفسه، كان كثير من أتباع هذه الوثنية من ورثة التقليد اليهودي المسيحي بصوره المختلفة. سمح ذلك للنبي أن يوجه رسالته ضد الميول الوثنية، مناديًا هؤلاء لفهم التراث المشترك لأنبياء الشرق الأوسط. إن هذه الظروف هي التي تجعل من الممكن اعتبار الإسلام تقليدًا إبراهيميًّا حقًّا، أصبح ممكنًا بواسطته اكتشاف الأمور التي لا تتوافق مع عقيدة النبي، إلا أنها تحمل معنى (أي إنها مُبَرَّرة، وإن كانت غير صحيحة من وجهة نظر التوحيد الثابت) من أجل التراجع عنها، وإرشاد الناس إلى طريق الإصلاح. كما أسهم هذا القرب لمعتقدات ما قبل الإسلام من التوحيد في سهولة تأثر المسلمين بالعلوم، والمعرفة، والثقافة الأدبية للشعوب الأخرى. عُرفت شمولية التقليد العربي الإسلامي (بشكل متناقض) بالتوحيد المطلق في دينهم. بعبارة أخرى، عند التمسك والالتزام بالتوحيد، كان من الممكن دمج العناصر المتبقية من الثقافة السابقة، ومجالات تطبيق العقل البشري، دون صعوبة كبيرة، في بنية الثقافة الجديدة، والفكر الديني (بما في ذلك العلوم، والمجالات العلمية والسلوكية، التي يسميها أبو حامد الغزالي “العلوم الدينية”، والتي يتم إرجاعها في الدراسات الدينية عادة إلى البعد العلماني).
من هذا المنطلق، يمكننا أن نتحدث عن سبب تحول الإسلام إلى دين عالمي، لكن هذا التعريف، مثل تعريف “الدين الإبراهيمي”، يجب أن يُنظر إليه ليس فقط من وجهة نظر شكلية (من حيث عدد الأتباع، والتبشير، وما إلى ذلك)، ولكن أيضًا من الناحية التاريخية. يمكن القول إن الدين يصبح عالميًّا، إذا كان قادرًا على استيعاب الأسلاف، والعلماء، والأتباع من جميع أنحاء العالم (بكل ما تحمله كلمة العالم من معان: بالكلام، وبمزايا التنظيم الاجتماعي والسياسي) واستيعاب ثقافتهم (بمعنى الدمج مع الحفاظ عليها)، كما فعل المسلمون الأوائل، فلم تكن الفتوحات العربية الإسلامية لتنجح لو لم يظهر المسلمون، في أثنائها وبعدها، انفتاحهم الراديكالي على العالم، الذي لم يغير- في الوقت نفسه- مبادئ دينهم.
هذه العالمية منذ البداية لها نقيضها العَقَدي والروحي بشكل عام، الذي يهوي بالدين إلى الانقسامات الكَنَسية (أو ما شابهها)، والمواجهات الطائفية.
إن الحصول على مكانة الدين العالمي يعني الاستعداد لاحتضان العالم، وترتيبه وفقًا لعهودك الخاصة. الاستعداد في هذه الحالة لا يساوي القدرة؛ لأنه قد لا تكون القدرة موجودة، إلا أنه يبقى الاستعداد بمعنى التهيؤ. لكن في هذه الحالة، يمكن أن يتراجع الاستعداد عندما تحدث أزمة بين المجتمع والدين تقود إلى طريق مسدود (كما حدث في البلدان الإسلامية في أوائل العصر الحديث)، حيث لا يمكن الحفاظ على هذا الاستعداد من حيث ظهور أتباع جدد، واستمرار التبادل الثقافي، والعلاقات النشطة (وليست الخاملة) مع الدول الأخرى. عندئذٍ يبقى الدين عالميًّا، ولكن غالبًا في نطاق دولة معينة بذاتها. أصبحت الخصوصية الوطنية للدول العربية، وغيرها من البلدان ذات الغالبية الإسلامية التي تشكلت عوالم منفصلة حولها، هي من بنات أفكار فترة التدهور.
إذن، مفهوم “الأديان الإبراهيمية” له معنى خاص في الإسلام، فقد أدّى مفهوم “العائلة الإبراهيمية” دورًا حاسمًا في ظهور الدين الإسلامي، وظهور التوحيد في الشرق الأوسط. هذه الحقيقة يعترف بها أتباع الإسلام المعاصرون، وهي مهمة لفهم الإسلام بوصفه دينًا عالميًّا، وفهم علاقته بالديانات الأخرى (أهل الكتاب). يتطابق المفهوم الديني لمصطلح “الأديان الإبراهيمية” من حيث المعنى مع الفهم الإسلامي لهذا المصطلح- إلى حد كبير- لكنه لا يعكس تمامًا الخصائص المحددة التي يؤديها هذا التقارب الداخلي بين هذه الأديان في إطار الإسلام نفسه. من وجهة نظر المسيحية واليهودية، لا يؤدي التقارب بين “الأديان الإبراهيمية” هذا الدور المهم، مع أن التشابه التاريخي بين الجوانب المتعددة لهذه الأديان لا يمكن ألا يلاحظه أحد. في المجتمع الروسي الحديث، تتم وحدة الأديان المختلفة في أغلب الأحيان على قاعدة المؤسسات المدنية، والمؤسسات الدينية المرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا. العلاقات الداخلية في المؤسسات الدينية بين ممثلي أديان “العائلة الإبراهيمية”- اليهودية والمسيحية (الأرثوذكسية بشكل أساسي) والإسلام- ليست متطورة بشكل كبير، مع أن هناك ضرورة لذلك، ويعترف بذلك كثير من القادة الدينيين من جميع هذه الطوائف.
المؤسسات المشتركة لأديان التقليد الإبراهيمي في روسيا
في روسيا، لا تتعايش مجتمعات الأديان التقليدية (التي تضم بشكل أساسي الأديان الإبراهيمية) على مستوى “القاعدة الشعبية” في المجتمع فحسب؛ بل تتعاون أيضًا على المستوى المؤسساتي. يتعلق وضعها الخاص في البلاد بتاريخ تطور المجتمعات الدينية في روسيا، وعلاقتها بعضها ببعض، وعلاقتها بالدولة. كان من المفترض أن تعمل الدولة الروسية، على الرغم من فترات تطورها المعقدة والمتنوعة، كنوع من عامل التوحيد، وأحيانًا عامل التوفيق بين المجتمعات الدينية المختلفة وغير المتجانسة. كان لا بد من تخفيف العداء بين الأرثوذكسية والإسلام، الذي ظهر خلال فترة سيطرة التتار والمغول على الممالك الروسية، وما تلاه من غزو قازان، وأستراخان، وخانات أخرى من جانب الممالك الروسية، وحله في إطار مكون اجتماعي سياسي واحد. مكانة هذه الدولة المُوَّحِدة احتلته القبيلة الذهبية في عصرها. كان على الدولة الروسية، بعد توحيد الأراضي الروسية والمكونات السابقة للقبيلة الذهبية، أن تتولى دور الوسيط الديني، وهذا يتطلب تطبيق سياسة التسامح الديني، على القدر الذي يمكن تطبيقه خلال تلك الحقبة، والسماح بتمثيل أعضاء الطوائف الدينية الرئيسة.
وهكذا، تبين أن مطلب تعزيز التسامح الديني لا ينفصل جسديًّا عن الجهود المبذولة للحفاظ على المجتمع المتعدد الأديان والمتنوع ثقافيًّا المذكور أعلاه. على مر التاريخ، تغيرت- بشكل متكرر- النسبة بين أعضاء هذا المجتمع من ممثلي المجموعات العرقية والتقاليد الدينية المختلفة. كما تغير الوعي الذاتي لكثير من حاملي الهوية الأوراسية جزئيًّا. ومع ذلك، فإن البنية “الشاملة” والمتعددة المستويات للهوية الأوراسية كانت ولا تزال عنصرًا بناءً للمجتمع التاريخي الروسي، وشرطًا لحيويتها، وميزة حضارية فريدة لها، بدونها لن تكون هويتها كما هي الآن عليه. يمكن القول إن روسيا تجد نفسها وتقبل مصيرها التاريخي (بصفتها وريثة القبيلة الذهبية) إلى درجة أنها تسهم في إقامة علاقات حسن الجوار بين شعوب منطقة أوراسيا. في هذه الحالة، نحن نتحدث مباشرة عن كل الشعوب داخل روسيا، وخارج حدودها.
بالطبع، يقترح كلا اتجاهي العمل إستراتيجيته الخاصة، لكن القيم الروحية والأخلاقية القابلة للتنفيذ لكل إستراتيجية تظل كما هي على المستوى الأولي. تظل كذلك، بالطبع، شريطة أن تتخذ روسيا خيارًا لصالح تراثها الحضاري الأوراسي. من القيم الأساسية التي يتكون منها هذا التراث، التسامح الديني، الذي تشهد له الصفحات المجيدة لتاريخ روسيا، وفترة ما بعد القبيلة الذهبية، حتى قبل أي صياغة واضحة للفكرة الأوراسية. وخير مثال على ذلك هو التغييرات الإيجابية التي حدثت في السياسة الدينية الروسية في عهد كاترين الثانية. ومع ذلك، لن نتعمق في تفاصيل الماضي، التي لا يمكن فهمها فهمًا كافيًا إلا في إطار دراسة عميقة وشاملة لكل الجوانب. التسامح ليس مجرد شعار، وليس مجرد عامل في السياسة الدينية، أو سمة ثقافية عرضية، ولكنه- على وجه التحديد- قيمة تربط الناس عبر المكان والزمان، فهو ينتمي إلى الأسس الروحية للفضاء الحضاري الأوراسي.
في روسيا، منذ عهد الإمبراطورة كاترين العظمى، تطور نظام خاص لعلاقات الدولة مع المسلمين، حيث كان أهم مفصل فيها هو الإدارات الدينية للمسلمين التي تنشئها الدولة، وتتحكم فيها. كان يترأس هذه الإدارات مفتون معينون من الدولة. استمر هذا النظام، مع تغييرات طفيفة، حتى انهيار الاتحاد السوفيتي. أما في روسيا الحديثة (بعد الاتحاد السوفيتي)، فتغير النظام كثيرًا: لقد تجاوزت الإدارات الدينية للمسلمين سيطرة الدولة.
في الاتحاد السوفيتي الرسمي في فترة ما بعد الحرب، كان من بين المُسَلَّمَات ما يلي: “في الاتحاد السوفيتي، هناك هيئة حكومية- مجلس الشؤون الدينية التابع لمجلس وزراء الاتحاد السوفيتي، الذي شُكِّلَ من أجل التطبيق المستمر لسياسة الاتحاد السوفيتي فيما يتعلق بالأديان. المهام الرئيسة للمجلس هي: مراقبة احترام القانون في مجال الدين، ودراسة وتعميم ممارسة تطبيق قانون العبادات، ومساعدة المؤسسات الدينية في العلاقات الدولية، والمشاركة في النضال من أجل السلام، وتعزيز الصداقة بين الشعوب. يشيد المجلس أيضًا بالعلاقات بين حكومة الاتحاد السوفيتي والمؤسسات الدينية في الحالات التي تنشأ فيها قضايا تتطلب حلًا من جانب حكومة الاتحاد السوفيتي”[12]. في الواقع، استمرت الدولة في قمع المؤسسات الدينية، وتمت ملاحقة المؤمنين العاديين في بعض المناطق تحت ذريعة محاربة التطرف. أدى هذا النهج- بطبيعة الحال- إلى نمو الراديكالية الحقيقية عند أولئك الأشخاص الذين سُلبت منهم الحرية الفردية في ممارسة العبادات الواجبة. بدأت الطائفية أيضًا بالنمو بين السكان الأرثوذكس التقليديين، واستمرت تلك السلطات في قمعها دون نجاح كبير. يمكن القول إنه في مرحلة ما بعد الحرب، أدركت الدولة السوفيتية أخيرًا الحاجة إلى اتباع سياسة لينة في المجال الديني، لكنها فشلت في هذه المهمة، باستخدام نهج إداري للسيطرة فقط.
في هذا الصدد، في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، واجهت المجتمعات الدينية للأديان الإبراهيمية التقليدية في روسيا ليس فقط مهمة الإحياء العَقَدي، وإحياء العبادات؛ ولكن أيضًا متطلبات بناء علاقات بينها وبين الدولة في إطار جديد. في المرحلة الحالية، أُنشئ مجلس شؤون الأديان في روسيا، الذي أُسِّسَ في 23 ديسمبر 1998 في اجتماع لرؤساء وممثلي بطريركية موسكو ومجلس شورى المُفتين لروسيا والإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة الأوروبية، ومؤتمر المنظمات والجمعيات الدينية اليهودية في روسيا، والسانغا البوذية التقليدية في روسيا.
تفاعل وتقارب مواقف أتباع الديانات الإبراهيمية في التاريخ والحاضر
لا تتطلب المشكلات العالمية الحديثة- الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والبيئية، وغيرها- تعاونًا فعالًا فقط؛ فلا يمكن حلها دون مراعاة التجربة الفريدة لمختلف البلدان، وفهمها في إطار تقاليدها الدينية؛ لذلك، في هذه القضية المشتركة، من المستحيل عند القيام بالمساواة النظرية والعملية للاختلافات بين الشعوب المختلفة مع خبرتهم التاريخية، الوقوع في العالمية المفرطة، وهي سمة لبعض صور “التعددية الثقافية”. من المستحيل أيضًا القيام بذلك فقط من خلال الإشارة إلى التقارب الجيني للأديان الإبراهيمية بعضها مع بعض، مع أن هذا يعد البداية التاريخية المشتركة للإسلام والمسيحية، أما الشرق الأوسط، باعتباره مسقط رأس هذه الأديان، فله أهمية كبيرة- إن الإسلام والمسيحية متجذران بشكل متساوٍ في توجه الإنسان إلى الله، الذي يحدث بغض النظر عن الانتماء القومي، أو العرقي، أو الجغرافي. تُثرَى التقاليد الإسلامية من خلال مساهمة المجتمعات الإسلامية في مختلف بلدان العالم، ويستند التقارب بينها إلى القواسم المشتركة التي يكتسبها ممثلو هذه المجتمعات بالفعل في تجربتهم المتنوعة. وبالمثل، تنتصر القضية الإنسانية المشتركة للسلام عندما يسعى أعضاء المجتمعات المختلفة إلى التعاون على أساس تجربتهم المشتركة.
في تاريخ المسيحية والإسلام واليهودية، عُرفت كثير من العداوات والمواجهات العسكرية المؤلمة. أحداث مثل الفتوحات العربية والتركية، والحروب الصليبية، واضطهاد اليهود، تُظلم تاريخ التعايش بين الأديان الإبراهيمية الثلاث، وغالبًا ما تُذكَر في التاريخ الغربي. في الوقت نفسه، لم تؤد المواجهات بين الدولتين المسيحية والإسلامية على الساحة التاريخية دائمًا إلى حدوث مجازر. في المقابل، لم تكن الحروب بين الدول التي تهيمن عليها المسيحية والدول التي يهيمن عليها الإسلام تحدث فقط لأسباب دينية.
مفهوم الجهاد في الإسلام، الذي يُربَط أحيانًا بشكل خاطئ بفكرة الحرب الدينية التعصبية، طوّره العلماء المسلمون لكي يضم مجموعة واسعة من الأنشطة التي تهدف إلى ترسيخ الإيمان بالله، وتعزيز الجهود المبذولة للاقتراب من نهج الصالحين. يندرج تحتها الحرب الدفاعية، ومن الأمثلة على ذلك حروب المسلمين مع المشركين العرب في أثناء دعوة النبي محمد، وبعد تلك الفترة. مثال على الاستخدام الحق للدعوة إلى الحرب الدفاعية لأتباع المسيحية والإسلام هو ما قامت به الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا خلال الحرب الوطنية العظمى؛ لذلك، على سبيل المثال، رئيس الإدارة الدينية الإسلامية المركزية، سماحة المفتي عبد الرحمن رسولوف، دعا المسلمين إلى الدفاع عن الوطن عدة مرات في الأيام الأولى من الحرب الوطنية العظمى، وبالتحديد في 18 يوليو (تموز)، و7 أغسطس (آب)، و2 سبتمبر (أيلول) 1941.[13]
حدثت ضجة كبيرة في ربيع عام 1942؛ ففي 15 مايو (أيار) 1942، عندما كانت الفيرماخت (القوات الألمانية) تتقدم باتجاه القوقاز، قال المفتي عبد الرحمن رسولوف (رئيس الإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا): “اليوم، لا يوجد مؤمن واحد ليس له ابن، أو أخ، أو أب يحارب الألمان… نحن مسلمي الاتحاد السوفيتي نعرف جيدًا كلمات النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم التي معناها: […] حب الوطن والدفاع عنه شرط من شروط الإيمان”. خرج اجتماع المفتين في أوفا في يوم إلقاء هذا الخطاب بدعوة لجميع المسلمين المؤمنين مرة أخرى للدفاع عن الاتحاد السوفيتي من الغزاة النازيين، سواء في المعركة، أو في الدعم، وكان من الواجب أن يسهم المسلمون في النصر[14].
وقعت أحداث مهمة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والسياسة الدينية للدولة السوفيتية، كانت بداية استئناف التعاون بين سلطات الكرملين والكنيسة، في 4 سبتمبر 1943، حيث عقد ستالين- بصفته رئيس مجلس مفوضي الشعب في الاتحاد السوفيتي- اجتماعًا مع رؤساء الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، مطران موسكو سيرجي (ستراغورودسكي)، ومطران لينينغراد أليكسي (سيمانسكي)، ومطران كييف نيكولاي (ياروسشيفيتش). بعد ذلك، انعقد مجلس الأساقفة، الذي انتخب بطريرك موسكو وعموم روسيا، وشُكّلَ مجلس شؤون الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في إطار مجلس مفوضي الشعب في الاتحاد السوفيتي [15].
وإدراكًا منهم أن الدولة السوفيتية، من أجل الحفاظ على الروح المعنوية والولاء للشيوعيين، بدأت باتخاذ مواقف أكثر ليونة تجاه الدين، أعلن المفتون الجهاد ضد ألمانيا؛ أولًا: بدأ مفتي الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وكازاخستان في طشقند، ثم تبعه قادة مسلمون آخرون، حيث أصدروا دعوات مماثلة [16]، وكان هؤلاء هم رؤساء الإدارات الدينية التي أُنشئت في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) 1944، كالإدارة الدينية لمسلمي بلاد ما وراء القوقاز (باكو، وأذربيجان)، والإدارة الدينية لمسلمي شمال القوقاز (بويناكسك، وداغستان)، حيث دعوا جميع مسلمي الاتحاد السوفيتي إلى الجهاد ضد النازيين [17].
أُضفي الطابع المقدس على الحرب، وهو ما يبرره الالتزام الديني بالدفاع عن الوطن ضد الغزاة. وجاء في خطاب مؤتمر المفتين: “في هذه الحرب الوطنية المقدسة ضد ألمانيا الفاشية وأتباعها، لإثبات أنكم على حق، أظهروا ولاءكم للوطن أمام العالم كله، ادعوا في الجوامع والمساجد لنصرة الجيش الأحمر”. نشر رجال دين آخرون هذه الكلمات في المجتمعات المسلمة في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي. المسلمون، مثل ممثلي الديانات الأخرى، سجلوا أنفسهم متطوعين، وشاركوا في الدعم. تحت قيادة رؤساء الإدارات الدينية للمسلمين، جُمعت التبرعات لتمويل شراء الدبابات، والأدوات، والملابس، والمواد الغذائية لتزويد الجبهة. خلال الحرب، أُنشئت 19 فرقة رماة من الجيش الأحمر، و20 فرقة فرسان، و15 لواء رماة. أخذت بعض هذه الوحدات فيما بعد لقب الحراس لمآثرهم. قاتل المسلمون أيضًا كجزء من التشكيلات العسكرية العادية. شارك في الحرب الوطنية العظمى نحو 180 ألف تركماني، و200 ألف طاجيكي و300 ألف قيرغيزي، و600 ألف أذربيجاني، ومئات الآلاف من التتار.
على الرغم من سياسة الإلحاد الصارمة للقيادة السوفيتية، تمكنت المؤسسات والمجتمعات الدينية في الاتحاد السوفيتي ليس فقط من الحفاظ على مبادئها وإيمانها؛ ولكن أيضًا الصمود أمام اختبار الولاء لبلدهم، الذي كان في حالة خطر ضد عدو مشترك. إن قرار رؤساء الكنائس والشخصيات الإسلامية، بالتعاون مع السلطات، ودعمهم بالإجماع للجيش الأحمر، هو مثال على سياسة المصالحة الدينية. لا يتعلق الأمر فقط بالمصالحة بين ممثلي الأديان المختلفة المتقاربة في دولة متعددة الجنسيات، بل يتعلق أيضًا بإيجاد حل من أجل الوصول مع سلطات الدولة إلى خريطة إنقاذ في ظل حالة الخطر المميت الذي يهدد جميع المواطنين، المتدينين أو غير المتدينين. لم يكن هذا الحل الوسط مقبولًا فحسب؛ بل كان ضروريًّا.
الجدير بالذكر أيضًا أن اليهودية، كإحدى الديانات الإبراهيمية المعترف بها، لها وضع خاص في التطور. بسبب اتجاه علمنة اليهود الأوروبيين، التي بدأت تبزغ منذ أمد طويل، إلا أنها ظهرت جليًّا في القرنين التاسع عشر والعشرين، لم تؤدِّ المؤسسات الدينية اليهودية دورًا كبيرًا مثل المؤسسات المسيحية والإسلامية. ومع ذلك، تفاوتت درجة العلمنة المذكورة، بالإضافة إلى ذلك، قبل الحرب الوطنية العظمى، مُنِعَ الإظهار العلني للمعتقدات الدينية. في هذا الصدد، يمكن القول إن كثيرًا من المؤسسات اليهودية العلمانية في الاتحاد السوفيتي كانت قادرة على أن تبرز فقط كمظهر من مظاهر التضامن اليهودي على أسس دينية، مع أن المشاعر الملبية لهذا الأمر ظلت مخفية، أو ظهرت بشكل فردي بحت. تعد أنشطة اللجنة اليهودية المناهضة للفاشية في الاتحاد السوفيتي في أثناء الحرب، على الرغم من الطبيعة العلمانية لهذه المؤسسة، مثالًا للتضامن المدني، الذي يتطلب الاحترام بين المتدينين من ذوي النيات الحسنة.
لم يؤدِّ انهيار الاتحاد السوفيتي، على الرغم من كل عيوب هذه الدولة المشيدة أيديولوجيًّا، إلى إحياء النشاط الديني الحر، ودمقرطة المؤسسات العامة في روسيا ورابطة الدول المستقلة فحسب؛ بل أدى أيضًا إلى نشوب صراعات كثيرة في الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي. لوحظ نمو كره الأجانب، والعداء بين الأعراق في كل مكان تقريبًا. في هذا الصدد، في المرحلة الحالية، تتمثل إحدى أهم المهام لكل من مجلس شؤون الأديان وقيادة الطوائف الدينية الرئيسة في البلاد في مواجهة ظهور الخلافات الدينية بين أتباعهم ومكافحة التطرف الذي يتطفل على الشعارات الدينية.
في رسالة له في عام 2012، أشار رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، البطريرك كيريل، إلى أن التطرف الذي يحدث اليوم بين بعض الطوائف الدينية هو الخطر الأكبر على العالم كله، وحث البطريرك الجميع على توخي الحذر عندما يصر سياسي ما على وصف موقف وطني محدد بالتطرف. كما جاء في هذا الخطاب أيضًا أن ممثلي الديانات الأخرى يحظون دائمًا بالاحترام في روسيا، وهذا يجب أن يستمر في المستقبل. قال البطريرك إنه لا توجد حالات تدل على تدنيس أرثوذكس معابد الأديان الأخرى؛ لأنهم يتعاملون دائمًا باحترام كبير مع جميع الديانات الأخرى ومعتنقيها. أولى البطريرك اهتمامًا خاصًا لحقيقة أنه من الضروري في الوقت الحاضر الحفاظ على تقليد التعايش السلمي، والاحترام المتبادل بكل قوة، وكذلك ضمان عدم انتشار الآراء الأصولية والراديكالية في العلاقات بين الأديان، وعدم السماح بهيمنتها في نهاية المطاف. بشكل عام، تُظهر هذه الكلمات ممثلي الأرثوذكسية في صورة إيجابية حصرية، ولا تحتوي على تحليل تاريخي عميق، لكن هذا الخطاب يحتوي على دعوة عادلة للتعاون بين الأديان، ومكافحة التطرف.
المواجهات الدموية بين المسلمين واليهود والمسيحيين في الشرق الأوسط، التي نادرًا ما تهدأ، لا تجعلنا في روسيا نبقى غير مبالين بها؛ فهي ليست فقط أحد أهم العوامل المساهمة في الانقسام بين ممثلي هذه الديانات الإبراهيمية وبقية العالم، بما في ذلك روسيا، ولكنها تتطلب أيضًا ردة فعل مبررة ومجدية من القيادات الدينية، والمؤسسات الدينية والمدنية.
بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، وصعود التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق عام 2015، أصدر مجلس شؤون الأديان في روسيا (ICR) بيانًا في مجلس الدوما بموسكو. جاء في هذا البيان تقييم للأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وتغطيتها في وسائل الإعلام الروسية. كما دعا البيان وسائل الإعلام إلى تحمل المسؤولية عند نشر المعلومات المتعلقة بأنشطة المنظمات الإرهابية الدولية المحظورة، التي تؤثر أسماؤها في مشاعر المؤمنين المسلمين، وتشوه مفاهيم “الإسلام” و”الدولة”.
أُدرج النظر في هذه المسألة ضمن جدول أعمال الاجتماع الأول لمجلس شؤون الأديان عام 2015، بمبادرة من كاتب هذه السطور. في وقت سابق، أكدنا أيضًا حدة هذه المشكلة وموضوعيتها بشكل خاص في لجنة التعاون الدولي التابعة لمجلس التعاون مع المؤسسات الدينية، برئاسة رئيس الاتحاد الروسي، التي اجتمعت في 19 مارس (آذار) 2015 برئاسة مدير قسم العلاقات الخارجية للكنيسة، مطران فولوكولامسك، إيلاريون. في الوقت نفسه، أعربنا عن أملنا في أن يشارك مجلس شؤون الأديان قلق الإدارة الدينية لمسلمي روسيا بشأن القمع الذي يحدث في الشرق الأوسط، ليس فقط للمسلمين؛ ولكن أيضًا لممثلي الديانات الأخرى، ويولي المجلس اهتمامًا لدعوة الإدارة الدينية لوسائل الإعلام الروسية لاستبدال الأسماء الكاملة والمختصرة للجماعات الإرهابية، وبالتحديد “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الموجودة في الوسط المعلوماتي الروسي، بالاختصار العربي الأصلي (داعش)- بدون كتابتها بشكل كامل، أو ترجمتها إلى الروسية.
في رأينا، من أجل ضمان الأمن المعلوماتي في الدولة، وحماية القيم التقليدية للمواطنين، فإنه من الضرورة: حذف الأسماء الذاتية للمنظمات المتطرفة التي تنشرها وسائل الإعلام في الوسط المعلوماتي. هذه الأسماء تشوه سمعة الإسلام ومفهوم الدولة. بالإضافة إلى ذلك، فإن أنشطة هذه المنظمات في روسيا محظورة بقرار من المحكمة العليا للاتحاد الروسي. كما أن استخدام الاختصارات المشتقة من هذه الأسماء، مثل “داعش”، و”دواعش”، وغيرهما، التي يؤدي كثرة استعمالها على الإنترنت إلى حدوث “انفجار اختصاراتي” حقيقي، يعد أيضًا هادمًا، بل يجب إيقافه.
والجدير بالذكر أن الموقف المتداعي للإدارة الدينية لمسلمي الاتحاد الروسي قد لقي استحسانًا من قيادة مجلس شؤون الأديان في روسيا، التي اعتبرت أنه من المهم جدًّا الإدلاء ببيان عن هذا الأمر في ظل القلق المتزايد بشأن الأحداث في الشرق الأوسط، وانعكاسها على الوسط الإعلامي العام.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المواقف من كل من القادة الدينيين والسياسيين، يمكن أن تقابل في كثير من الأحيان بالتشكيك، وهذا ليس مفاجئًا بالنظر إلى الصعوبات والأزمات التي واجهتها الشعوب في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر ونذكر أنه مع أن الناس لا يستطيعون القيام بالمعجزات، فإنهم يمكنهم العمل معًا من أجل إنقاذ النفس البشرية، التي تعد من منظور كثير من الأديان هبة من الله، وتعزيز التعاون بين الأديان، والتعاون الدولي هو خطوة أساسية لتحقيق ذلك. هذا الأمر ضروري في ضوء حقيقة أن الديماغوجية الخبيثة، القائمة على تفوق وهيمنة عرق أو دين على آخر، يمكن أن تشعل حربًا جديدة في الشرق الأوسط، فقد تسببت بالفعل في أضرار جسيمة من الصعب إصلاحها.
تقييم الاتفاقية “الإبراهيمية” ودورها في عملية السلام
الصراع العربي الإسرائيلي، الذي يُعد “طويلًا وبطيئًا”، ولكنه يؤدي- مرارًا وتكرارًا- إلى اشتباكات “ساخنة” بين أتباع الإسلام واليهودية في قلب أديان الشرق الأوسط، هو أخطر قضية في الشرق الأوسط تهدد مجال تعزيز المصالحة الدينية. إن الوضع الذي نشأ بسبب هذا الصراع المتمثل في عدم حصول الفلسطينيين على حقوقهم، ونشوء سياسات كراهية الأجانب والعنصرية في الدوائر المتطرفة داخل القيادة الإسرائيلية، يهدد بدفن الآمال في هذه المصالحة لعقود طويلة. لذلك، في عصرنا، يجب اعتبار كل خطوة من الخطوات الصغيرة الهادفة إلى إقامة الحوار بين الأديان وبين الدول، ناجحة. في التاريخ الروسي، تسبب التحريض على النزاعات بين الأديان في إحداث جرح خطير، وبالتحديد في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، عندما اختلطت النزاعات السياسية والدينية في بعض الأحيان، وأدت إلى خسائر كبيرة في كلا الجانبين. مع أخذ ذلك في الحسبان، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من وجود عدد من المشكلات الحرجة والمتعلقة بوضع المسلمين في روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق كـ (الفقر، وحالات التمييز والعنصرية، والتطور غير الكافي للبنية التحتية الدينية، والدعاية للتطرف) يبقى الوضع الديني والمدني مستقرًا عمومًا، ويُسر جميع سكان روسيا والدول المجاورة، وخاصة أتباع المسيحية والإسلام. أصبح من الواضح أن شعار “صداقة الشعوب” وحده لا يمكن أن يحل التناقضات المعقدة والقديمة التي يواجهها أتباع هذه الديانات الشقيقة؛ لأن هذا الشعار السوفيتي وخياراته الحديثة من خلال روح الاستقامة السياسية لا يأخذ في الحسبان التجربة الحية لمجتمعات الأديان الإبراهيمية. “السرد المُسهَب” عن الأديان الإبراهيمية، المرتبط بمفهوم “العائلة الإبراهيمية” البابوي (البطريركي)، الذي ينعكس- انعكاسًا مختلفًا- في الإسلام والمسيحية والدراسات الدينية العلمانية، له شروطه وعيوبه الخاصة. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يعتمد- بشكل مُبرَر- على قوة هذا السرد المؤثرة في دعوته إلى السلام والتقارب كإحدى وسائل حل التناقضات “الحضارية” في الشرق الأوسط.
أحد الأمثلة الدالة على قوة هذه الدعوة إلى الوحدة، هو الاجتماع الذي عُقد في أبوظبي عام 2019 بين شيخ الأزهر الشريف الإمام الأكبر أحمد الطيب، والبابا فرنسيس، رئيس الكاثوليك في العالم. نتج عن ذلك الاجتماع التوقيع على “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام والتعايش”، وهي بيان برنامجي يهدف إلى تعزيز قيم الحرية والتسامح والمساواة، وتحقيق الرفاهية البشرية في ظل عالم مملوء بالكوارث والأزمات.
من جانب القيادة السياسية لدول الشرق الأوسط، نرى أيضًا جهودًا مبذولة لإحلال السلام والوئام، وإن كان ذلك تدريجيًّا. خطوة مهمة في هذا المسار تكمن في توقيع معاهدة السلام الإماراتية-الإسرائيلية (تم التوقيع عليها في 15 سبتمبر/أيلول 2020). ونتيجة لهذه الاتفاقية، أصبحت الإمارات العربية المتحدة ثالث دولة عربية بعد مصر (1979)، والأردن (1994) تقيم علاقات رسمية مع دولة إسرائيل، وأول دولة خليجية تفعل ذلك. ومع ذلك، وافقت إسرائيل على وقف خطط استيطان جزء من الضفة الغربية، التي تقع بحكم الأمر الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية منذ عام 1967.
بعد توقيع معاهدة السلام، صرح رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مائير بن شبات، فقال:
“ليس بالمصادفة أن يسمى اتفاقنا بـ (اتفاق إبراهيم) جدنا؛ فقد ثار إبراهيم على المفاهيم القديمة التي كانت موجودة في ذلك الوقت. لقد آمن بوجود إله واحد أصبح مصدر بركة لنا جميعًا. نجد الإلهام في سلفنا المشترك، الذي أوصانا بنهج طريق التجديد والشجاعة والأمل، طريق الأخوة، طريق الازدهار، طريق السلام”.
كما أشار بن شبات إلى أن هناك كثيرًا من الأشياء المشتركة بين إسرائيل والدول الإسلامية، وهذه ليست فقط التهديدات المتبادلة: “ما يُوَحِدُنا هو الشجاعة التي نواجه بها هذه التهديدات. هذه ميزة روح مواطنينا. نحن نعرف كيف ننظر إلى المستقبل، ولا نخاف من المهام الصعبة. نحن نسعى جاهدين إلى التجديد، نريد أن ننجح، نريد تغيير الواقع”. على الرغم من الإجراءات المتناقضة للقيادة الإسرائيلية والنشطاء الراديكاليين في هذا العام، حيث كان بعضها مستفزًا للمسلمين، وسبب ردة فعل معاكسة وقانونية، لا يسعنا إلا أن نرحب بإقامة علاقات عربية إسرائيلية (أو في إطار أوسع: يهودية- إسلامية) في هذا الشكل. إنه لمن المفرح أن نرى أنه من أجل هذا الغرض تُستخدَم ليس فقط العادات الدبلوماسية الجافة، ولكن أيضًا المناشدات للعودة إلى الوحدة التاريخية لأدياننا، على سبيل المثال، مجتمع المؤمنين، الذي يأخذ بدايته من نسل إبراهيم، وأن تسود هذه الإرادة بعد نهاية الأحداث الحالية الدامية على أرض فلسطين.
[1] A. Denffer, ‘Ulūm al-Qur’ān. An introduction to the Sciences of the Qur’ān, The Islamic Foundation, Leicester 1983, 7.
[2] A. Mokrani, Leggere il Corano a Roma, Roma 2010, 63.
[3] A. Argyriou, Coran et histoire, Athens 1984, 140.
[4] انظر: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر، تحقيق محمد خلف الله، ودكتور. محمد زغلول سلام، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، ص 27.
[5] J. Gilchrist, The Qur’an : The Scripure of Islamhttp://answering-Islam.org/authors/gilchrist/quran.html Cons ultato 26-12-2014.
[6] Cfr . فيكتور فينك، لماذا أومن بالرب، مينسك، 2000.
[7] Cfr. Karl Sabiers¸Russian Scientist Proves Divine Inspiration of Bible¸Bible numerics, 1969.
[8] يوري ماكسيموف، تحدي الإسلام والكنيسة الأرثوذكسية، موسكو، 2010، 13-14.
[9] لوجينوف: أوراسيا والإسلام، موسكو، 2017، 323.
[10] سورة النساء، الآية 54.
[11] لأسباب مختلفة، منها التكوين الطائفي لسكان شبه الجزيرة العربية وإيران، تم تصنيف الزرادشتيين والصابئة أيضًا من ضمن أهل الكتاب. في العقود الأولى من حكم المسلمين، عوملوا بنفس معايير التسامح الديني، وضمان الحرية الدينية التي عومل بها اليهود والمسيحيون.
[12] الموسوعة السوفيتية العظمى (30 مجلدًا)، المحرر الرئيس: أ. م. بروخوروف، الإصدار الثالث، موسكو، 1976، المجلد رقم 24: الكلاب- الوتر، ص 18.
[13] ض. ف. محيي الدين، ف. أ. أحمد اللين، ج. ف. أحمد اللين: النداءات الوطنية التي وجهها قادة المسلمين السوفيت إلى إخوانهم المؤمنين في أثناء الحرب الوطنية العظمى، منبر الدراسات الإسلامية، 2020، رقم 13(2)، ص 307-329.
[14] أرشيف الدولة الروسية للتاريخ الاجتماعي والسياسي، الصندوق رقم 17، المجلد الخاص رقم 125، وثيقة رقم 106، ص 78 – 84.
[15] م. إي. أدينتسوف: الدولة والكنيسة في روسيا في القرن العشرين، موسكو، دار النشر “لوتش”، بي. إم. بي. الأكاديمية الروسية للإدارة، 1994. ص. 104-107؛ م. إي. أدينتسوف: المؤسسات الدينية في الاتحاد السوفيتي عشية وفي أثناء الحرب الوطنية العظمى 1941-1945؛ الأكاديمية الروسية للخدمة المدنية برئاسة رئيس الاتحاد الروسي. موسكو: الأكاديمية الروسية للخدمة المدنية، 1995. ص 15 – 22؛ م. شكاروفسكي: الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والدولة السوفيتية في أعوام 1943-1964. من “الهدنة” إلى حرب جديدة، سانت بطرسبورغ، دار النشر DEAN + ADIA-M 1995. ص .20؛ م. شكاروفسكي: الكنيسة الأرثوذكسية الروسية خلال حكم ستالين وخروتشوف. العلاقات بين الدولة والكنيسة في عهد الاتحاد السوفيتي خلال الفترة 1939- 1964، موسكو، 1999. ص 204 – 206.
[16]في الوثائق الأرشيفية تُعرض كخطابات (دعوات).
[17] أرشيف الدولة الروسية للتاريخ الاجتماعي والسياسي، الصندوق رقم 17، المجلد الخاص رقم 125، الوثيقة رقم 261، ص 27- 33؛ 47-51.