رسم حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، الخاص والحصري للمذيع اللامع الدكتور عمرو عبد الحميد، في قناة “الغد” المرموقة، ملامح الإستراتيجية الروسية، والحسابات والمعادلات التي يفكر فيها الكرميلن منذ الساعات الأولى للحرب بين الفصائل الفلسطينة وإسرائيل، وقامت هذه المعادلات- وفق حديث الرئيس بوتين- على عدم توسيع “دائرة العسكرة”، وضرورة التوقف عن إرسال السلاح والذخيرة إلى المنطقة؛ لتشجيع الأطراف المنخرطة في الحرب على التفكير في السلام، وليس توسيع دائرة القتال. ومع تصاعد وتيرة الحرب، برزت- بقوة- “المقاربة الروسية” التي تعتمد- بالأساس- على وقف إطلاق النار، الذي عبر عنه “مشروع القرار الروسي” في مجلس الأمن الذي أسقطه “فيتو” ثلاثي من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وتعمل روسيا بكل ما تملك على تعزيز دور الأمم المتحدة في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ من خلال إدخال المساعدات الإغاثية والطبية لنحو 2.3 مليون نسمة من سكان القطاع، والدعوة إلى الالتزام بالقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، وصولًا إلى بناء “مسار سياسي” يفضى في النهاية إلى قيام دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. وترى التقديرات الروسية فيما جرى منذ 7 أكتوبر الماضي أنه نتيجة غياب الأفق السياسي بين الفلسطينين والإسرائيليين وانسداده، وتعبير عن “فشل أمريكي تام” في رعاية مفاوضات السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي منذ احتكار الولايات المتحدة رعاية عملية السلام، وتفريغ اللجنة الرباعية من مضمونها، وهي اللجنة التي كانت تشرف على تنفيذ “خريطة الطريق” للحل السياسي برعاية رباعية، تضم الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة.
لكن على الجانب الآخر، هناك اتهامات أمريكية لروسيا بأنها من أكبر الرابحين من استمرار الحرب في الشرق الأوسط، ووصل الأمر إلى اتهام موسكو بأنها في الفريق الذي أشعل الحرب، ليس فقط لتشتيت الانتباه والجهد الأمريكي بين جبهتي أوكرانيا وإسرائيل؛ بل نظرًا إلى العلاقات الإستراتيجية التي تجمع بين موسكو وطهران، ولا تتقبل الأطراف الغربية أي فكرة عن استقلال قرار حماس يوم 7 أكتوبر بعيدًا عن إيران حليفة موسكو التقليدية، وميول أذرع إيران في المنطقة- ومنها حماس- لروسيا التي استضافت أكثر من مرة قادة من الحركة في موسكو، فما الحسابات الروسية تجاه مختلف السيناريوهات التي يمكن أن تندفع فيها مسارات الحرب بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية؟ وكيف تتعامل الولايات المتحدة وحلف الناتو مع التحركات الروسية في الإقليم العربي والشرق الأوسط؟
الاستعداد لكل السيناريوهات
مع أن ما جرى يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) فاجأ الجميع، فإن روسيا استطاعت خلال أقل من أسبوعين أن تبلور رؤية وإستراتيجية متكاملة ومبدعة للتعامل مع كل السيناريوهات المحتملة، وتقوم هذه الرؤية على مجموعة من العناصر، وهي:
أولًا: حصار لينينغراد
أقوى تصريح رافض لحصار قطاع غزة جاء على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فهو الذي وصف حصار إسرائيل لغزة بأنه يشبه حصار مدينة لينينغراد (سانت بطرسبورغ)، وهذا يكشف رؤية الكرملين لهذه القضية التي تقول بأن سكان غزة يقاومون الهجوم الإسرائيلي الذي قطع المياه والكهرباء وكل شىء في سيناريو يتشابه مع الحصار الذي تعرضت له مدينة لينينغراد في الحرب العالمية الثانية، وكان صمودها مؤشر على دخر روسيا للنازية بعد نجاح مقاومة لينينغراد
ثانيًا: توازن دقيق
يقوم الموقف الروسي منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) على عدم إدانة هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على إسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يدين أي استهداف للمدنيين، ولهذا تطالب موسكو بخفض التصعيد في قطاع غزة، ووقف إطلاق النار في أقرب وقت، وضرورة أن يكون المدنيون خارج دائرة الاستهداف، مع تأكيد حصول سكان غزة على كل المساعدات الإنسانية دون عراقيل.
ثالثًا: عدم توسيع الصراع
روسيا تشجع جميع الأطراف المحتمل دخولها الحرب على عدم الذهاب إلى هذا السيناريو؛ لأن حسابات موسكو تقول إن دخول أطراف، مثل إيران، أو أذرعها العسكرية في العراق واليمن وسوريا ولبنان، يمكن أن يعقد الصراعات في الشرق الأوسط، لكن موسكو تخشى- في الوقت نفسه- أن يكون الهدف من إرسال الأسلحة والجنود الأمريكيين إلى الشرق الأوسط، ليس مجرد إرسال رسائل سياسية بقدر اندفاع واشنطن إلى مغامرة عسكرية على أكثر من جبهة؛ بهدف تصفية الأذرع المسلحة لطهران في الإقليم العربي، وتعارض موسكو هذا السيناريو تمامًا.
رابعًا: آلية مجلس الأمن
تراهن روسيا على انتزاع موقف دولي يجبر طرفي الصراع على وقف الحرب؛ ولهذا كانت روسيا هي “أول دولة” في مجلس الأمن تقدم مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في 16 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، وهو القرار الذي استخدمت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا “الفيتو” ضده، كما أن روسيا قدمت تعديلين على مشروع القرار البرازيلي في اليوم نفسه، وها هي روسيا تستعد لطرح مشروع قرار جديد، وهو أمر يعكس إدراكًا حقيقيًّا وإيمانًا روسيًّا كاملًا بدور مجلس الأمن، في مقابل تشكيك من إسرائيل وكثير من الدول الغربية في دور الأمين العام للأمم المتحدة، وحتى عندما أرسلت روسيا مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، أرسلتها إلى مؤسسات الأمم المتحدة والأونروا، وهي سياسة روسية تعمل دائمًا على تعزيز دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في مقابل تهميش غربي للأمم المتحدة منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
خامسًا: إحياء دور اللجنة الرباعية الدولية
تعمل روسيا منذ توقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، في أبريل (نيسان) عام 2014، على إحياء دور اللجنة الرباعية الدولية التي تضم روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وقد أُسست الرباعية الدولية في إسبانيا عام 2002 بغرض تنفيذ “خريطة طريق” تهدف إلى حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتقوم الأفكار الروسية على إحياء وتنشيط “خريطة الطريق”، و”اللجنة الرباعية الدولية”، وتعيين مبعوث دولي يمثلها، كما دعت روسيا- أكثر من مرة- إلى ضم مصر إلى خريطة الطريق باعتبار القاهرة من الدول الفاعلة في الملف الفلسطيني.
قراءة أمريكية للموقف الروسي
المدقق في ردة الفعل الأمريكي على ما يجري في الشرق الأوسط، يتأكد له أن الولايات المتحدة مشغولة أيضًا بالصين، وروسيا، وإيران؛ لأنه لا يمكن تصور أن الولايات المتحدة أرسلت حاملتي طائرات من طراز جيرالد فورد ودوايت أيزنهاور، ومعهما عشرات السفن الحربية، من أجل قتال غزة، ولا يمكن لعاقل أن يبني “تقديرًا سياسيًّا” على أن الهدف من سرعة إرسال منظومات الدفاع الجوي، مثل “باتريوت”، و”ثاد”، هو مواجهة الصواريخ التي تنطلق من أنفاق القسام، وسرايا القدس، أو حتى تلك التي يمكن أن يطلقها الحوثيون من جنوب البحر الأحمر؛ لأن إسرائيل تمتلك منظومات دفاع جوي لجميع الأمداء (المسافات) القصيرة، والمتوسطة، والبعيدة، وأوروبا نفسها تستعين بمنظومات الدفاع الإسرائيلية فرط الصوتية “أرو 3” ضمن رؤيتها لحماية السموات الأوروبية، التي يطلق عليها في ألمانيا “درع السماء”، وهو ما يشير إلى أن التصريحات الأمريكية في اتجاه، في حين أن سلوك واشنطن على الأرض يدفع إلى سيناريوهات أخرى. وتقوم القراءة الأمريكية للموقف الروسي على مجموعة من المسارات، وهي:
1- مصلحة روسيا في استمرار الصراع
أكثر من قراءة ومسؤول أمريكي ينظر إلى الحسابات الروسية على أن موسكو تأمل في استمرار الصراع بعض الوقت في الشرق الأوسط؛ بهدف تشتيت الاهتمام الأمريكي عن الجبهة الأوكرانية، وبالفعل غابت الأحداث في الحرب الروسية الأوكرانية عن صدارة وسائل الإعلام، ومنها وسائل الإعلام الأمريكية، ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقال البيت الأبيض إن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين قادرون على دعم جبهتي إسرائيل وأوكرانيا، وذلك بعد أن طلب الكونغرس أكثر من 100 مليار دولار لكل من أوكرانيا وإسرائيل، منها 14.5 مليار دولار لإسرائيل، وهو ما يشكل عبئًا ماليًّا جديدًا على الميزانية الأمريكية، والاقتصاد الأمريكي. ورغم كل ما يقال أمريكيًّا عن قدرة واشنطن على دعم 3 جبهات، هي أوكرانيا، وإسرائيل، وتايوان، فإن الحقائق على الأرض تقول إن الهجوم الأوكراني المضاد، الذي بدأ في 4 يونيو الماضي، فشل فشلًا ذريعًا، ومع طول أمد الحرب في الشرق الأوسط، واستغراق الولايات المتحدة فيه،ا فإن جبهة الدعم الغربي لأوكرانيا سوف تتأثر بشدة.
2- تعميق أزمة نقص السلاح والذخيرة
ترى واشنطن أن الحرب في الشرق الأوسط تصب في مصلحة موسكو بنسبة 100 %؛ لأن إرسال الأسلحة والذخيرة إلى إسرائيل يعمّق أزمة نقص السلاح والذخيرة التي تعانيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وهي أزمة كبيرة دفعت الرئيس بايدن إلى الطلب- أكثر من مرة- من شركات السلاح الأمريكية الثماني تسريع وتيرة إنتاج الذخيرة والسلاح، وباتت هذه الشركات تعمل- لأول مرة في تاريخها- على مدار الساعة، بعد أن كانت تعمل في السابق 16 ساعة فقط، كما طلبت الولايات المتحدة من الجيش الأوكراني تقليل استخدام الذخيرة، وخاصة 155 مم، التي يستهلك منها الأوكرانيون نحو 250 ألف قذيفة في الشهر، وهو ما يعادل استهلاك الناتو عامًا كاملًا في ذروة عمليات الناتو في العراق وسوريا عام 2010.
3- رصيد روسي من تثبيت المكاسب
تعتقد واشنطن أنه بغض النظر عن النتيجة الحالية للحرب الفلسطينية الإسرائيلية، فإن ما جرى يوم 7 أكتوبر (تشرين أول) يثبت ويعمق المكاسب لإيران وحلفائها في المنطقة العربية، وهذه المكاسب تعد بالتبعية “مكاسب روسية”؛ لأن حلفاء إيران في الشرق الأوسط هما حلفاء بالتبعية لروسيا، بل تنظر واشنطن إلى أذرع إيران في المنطقة باعتبارهم أعداء تقليديين للولايات المتحدة وداعميها الغربيين، وأن تحول الشرق الأوسط إلى مستنقع، سيكون حصريًّا لصالح روسيا والصين، ومعهما إيران.
المؤكد أن الحرب الإسرائيلية الفلسطينية تشكل “تحديًا كبيرًا” للولايات المتحدة، ويمكن لروسيا أن تستفيد منها إذا ظل المقربون منها بعيدين عن الصراع، لكن انخراط إيران وحلفاءها في الحرب، قد يفرض على روسيا “واجب ومسؤولية” دعم هؤلاء الحلفاء، كما فعلت منذ عام 2015 في سوريا، وكل هذا سوف يشكل “عبئًا إضافيًّا” على صانع القرار في الكرملين كما هو حاليًا على البيت الأبيض، الذي لا يخفي قلقه من تمدد أمد النزاع وتوسعه.