الدكتور مينا بديع عبدالملك يقرأ كتاب أنطون يعقوب ميخائيل «فلسطين.. لمن؟»
فى عام 2000 أصدر د. أنطون يعقوب ميخائيل (1922 – 2023)، المتخصص فى الدراسات الإفريقية والعميد السابق لمعهد الدراسات القبطية بالقاهرة كتابًا بعنوان: (فلسطين.. لمن؟)، قدم فيه دراسة منهجية، يستند جانبها التاريخى على الكتاب المُقدس والتاريخ العام، مع تحليل موضوعى للأحداث والمواقف. الكتاب صدر عن «مكتبة أسقفية الشباب» بالقاهرة.
بمناسبة ما تشنه إسرائيل من مذابح بغيضة فى الفلسطينيين، أود أن أعرض حقيقة دولة فلسطين. ففى تحليل الكاتب لقيام دولة إسرائيل وجد أنها قامت على أساس سلب أرض فلسطين وطرد شعبها منها، مدعية بعض الوعود التى وردت فى التوراة، ومُفسرة الكتاب المُقدس بنظرة أرضية عنصرية دموية محتلة، وأوضح الكاتب زيف هذه الدعاوى التى تستغلها إسرائيل فى كسب تعاطف المسيحية الغربية معها!!.
وهناك حقائق نعترف لهم بها، ويأتى على رأسها:
(1) عندما اختارهم الله كـ «شعب مختار» كان لهدف إلهى مُقدس. فهم كانوا بمثابة مدرسة نموذجية وسط العالم، قصد بها أن تكون رائدة فى الشهادة لله ونشر فكر الوحدانية، وهو هدف ينطوى فى حد ذاته على ما يحمله الله من حب للشعوب الأخرى، التى يريد لها الاستنارة والتعرف عليه. وهو اختيار كان مشروطًا بالتزامهم بطاعته وتقديس اسمه. ولهذا نبههم كما ورد فى سفر التثنية لموسى النبى: (إذَا وَلَدْتُمْ أَوْلاَدًا وَأَوْلاَدَ أوْلادٍ، وَأَطَلْتُمُ الزَّمَانَ فِى الأَرْضِ، وَفَسَدْتُمْ وَصَنَعْتُمْ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا صُورَةَ شَىْءٍ مَّا، وَفَعَلْتُمُ الشَّرَّ فِى عَيْنَىِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ لإِغَاظَتِهِ. أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ أَنَّكُمْ تَبِيدُونَ سَرِيعًا عَنِ الأَرْضِ الَّتِى أَنْتُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا. لاَ تُطِيلُونَ الأَيَّامَ عَلَيْهَا، بَلْ تَهْلِكُونَ لاَ مَحَالَةَ. وَيُبَدِّدُكُمُ الرَّبُّ فِى الشُّعُوبِ، فَتَبْقَوْنَ عَدَدًا قَلِيلًا بَيْنَ الأُمَمِ الَّتِى يَسُوقُكُمُ الرَّبُّ إِلَيْهَا). ويسجل تاريخهم الذى فى أيديهم أنهم فشلوا ولم يحققوا الهدف الرئيسى الذى من أجله جرى اختيارهم.
كذلك اتبع الإسرائيليون استراتيجية عُرفت باسم «استراتيجية العودة»، قامت على عدة أسس: استراتيجية روحية، وذلك بادعاء أنهم مازالوا شعب الله المختار!!، على الرغم من اعتراف دانيال النبى: (أَخْطَأْنَا وَأَثِمْنَا وَعَمِلْنَا الشَّرَّ، وَتَمَرَّدْنَا وَحِدْنَا عَنْ وَصَايَاكَ وَعَنْ أَحْكَامِكَ)، كما حذرهم الله بضرورة التوبة الصادقة لنوال رحمة الله، ومنهم حزقيال النبى كما ورد فى سفر «حزقيال» النبى: (تُوبُوا وَارْجِعُوا عَنْ كُلِّ مَعَاصِيكُمْ، وَلاَ يَكُونُ لَكُمُ الإِثْمُ مَهْلَكَةً. اِطْرَحُوا عَنْكُمْ كُلَّ مَعَاصِيكُمُ الَّتِى عَصَيْتُمْ بِهَا، وَاعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا وَرُوحًا جَدِيدَةً..). ثم استراتيجية تنفيذية، حيث اهتموا بتلمس السُبل التى تخدم قضيتهم، وركزوا على محاولات التسرب إلى مراكز صُنع القرار، حيث يمكنهم اقتناص الفرص المؤاتية لخدمة مصالحهم.
فبعد موت «يشوع» الذى عبر بهم الأردن إلى الأرض الجديدة، قام (جيل آخر لم يعرف الرب ولا العمل الذى عمل لإسرائيل. وفعل بنو إسرائيل الشر فى عينى الرب وعبدوا البعليم وتركوا الرب إله آبائهم.. فحمى غضب الرب على إسرائيل فدفعهم بأيدى ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم) كما ورد فى سفر «القُضاة». دأب الرب على اختيار «قضاة» لهم، أناس مستنيرة قلوبهم وينقادون بروح الله، وكان آخرهم صموئيل النبى. فجاءوا إليه، بعدما شاخ، يطلبون منه: (اجعل لنا ملكًا يقضى لنا كسائر الشعوب)، فساء الأمر فى عينى صموئيل.
ونبهه الله بقوله: (إنهم لم يرفضوك أنت بل إياى رفضوا حتى لا أملك عليهم) كما ورد فى سفر صموئيل النبى. أما مملكة إسرائيل (عشرة أسباط، انفصلت عن المملكة الشمالية- يهوذا- بعد موت سليمان)، فجميع ملوكها عملوا الشر أمام الرب، وكان الملك «آخاب» أفظعهم، وسقطت المملكة وعاصمتها السامرة فى أيدى الأشوريين عام 722 قبل الميلاد، وسُبى الشعب إلى نينوى (شمال العراق)، وحل محلهم أشوريون تملكوا أرضهم. وبهذا انتهى الكيان اليهودى نهائيًا ككيان سياسى، وظلوا بعد عودتهم من السبى طائفة دينية بين غيرهم من الطوائف حتى عهد «المكابيين» الذى بدأ عام 168 قبل الميلاد بحركة تمرد منهم ضد «أنطيوخس أبيفانيس» وأوامره بتقديم ذبائح وثنية.
(2) أعطاهم الرب أرض فلسطين باعتبارها أرض الموعد. وفعلًا بعد موت موسى النبى أمر الرب «يشوع»: (الآن قم واعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التى أنا معطيها لهم) كما ورد فى سفر يشوع. وبعد عبورهم نهر الأردن احتلوا أريحا أولًا. ودارت معارك كثيرة وشرسة مع ملوك وشعوب البلاد، واحتلوا مدنًا وأراضى. وظل القتال دائرًا مع السكان الأصليين بعد موت «يشوع» وطوال عهد «القُضاة». ولم تتم لهم السيادة إلا على أجزاء من أرض الميعاد. وبسبب شرورهم دفعهم الرب (ليد الفلسطينيين أربعين سنة) كما ورد فى سفر القُضاة، وخلصهم «شمشون»، ولكنهم قبضوا عليه وقلعوا عينيه وأوثقوه، وكان يطحن فى بيت السجن. وفى النهاية قضى هو على زعمائهم حين هدم المعبد عليهم وعلى نفسه. ولم تكن أورشليم فى يدهم طوال مدة «القُضاة» التى استمرت قرابة قرن ونصف (1170 – 1030 قبل الميلاد).
واستمرت الحرب سجالًا بين إسرائيل والفلسطينيين طوال حياة النبى «صموئيل». وعانت إسرائيل أزمة خانقة فى بداية عهد «شاول» الملك، ولم يوجد صانع فى كل أرض إسرائيل، لأن الفلسطينيين قالوا لئلا يعمل العبرانيون سيفًا أو رُمحًا. بل كان ينزل كل إسرائيل إلى الفلسطينيين لكى يحدد كل واحد سكته ومنجله وفأسه ومعوله (كما ورد فى سفر صموئيل). وكرر الفلسطينيون هجماتهم، ولم ينقذ إسرائيل منهم غير الفتى داود حين قضى على «جُليات» الجبار الفلسطينى بمقلاعه (كما ورد فى سفر صموئيل). ولما تجدد القتال مرة أخرى تمكن داود من هزيمتهم (كما ورد فى سفر صموئيل). ثم عاودوا الحرب ضد إسرائيل، ودارت معارك طاحنة، هُزم فيها الإسرائيليون، وقُضى على ملكهم «شاول» وأولاده الثلاثة (كما ورد فى سفر صموئيل).
غلاف الكتاب
وبعدما صار داود ملكًا، حاول الاستيلاء على أورشليم، ولكن شعبها من «اليبوسيين» منعوه من دخولها، فاحتل «حصن صهيون» الذى يبعد قليلًا إلى الجنوب من المدينة، وأقام فيه وأطلق عليه اسم «مدينة داود» (كما ورد فى سفر صموئيل). ونقل إليه تابوت العهد. ولما بنى الهيكل فى هذه البقعة فيما بعد أطلق عليها اسم «صهيون»، وصار للمكان دلالة مقدسة. واستمرت المعارك بينه وبين الفلسطينيين حتى نهاية مُلكه.. واستقرت الأمور فى عهد سليمان الملك، فكان متسلطًا على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخوم مصر.
ويتضح حينئذ من هذه النصوص الكتابية التى وردت فى التوراة (العهد القديم) أن فلسطين- أى الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر الكبير (البحر المتوسط)- لم تخلُص كاملة لشعب إسرائيل إطلاقًا. فقد ظلت الشعوب القديمة منتشرة كأقليات وسط أنصبة الأسباط، أو مستقرة فى مناطق امتنعت على الإسرائيليين. كما أن ملحمتهم ضد الفلسطينيين بالذات لم تتوقف قط. فالصراع استمر طوال عصر «القُضاة»، واشتد مدة حُكم «شاول» و«داود» الذى ملك حوالى 1010 – 970 قبل الميلاد، وكانوا موجودين فى أرضهم مدة حُكم سليمان (970 – 937 قبل الميلاد) حين بلغت المملكة أقصى اتساعها.
فالوعد قد تحقق باستقرارهم فى المناطق التى داستها بطون أقدامهم، أى التى استطاعوا احتلالها، والتى هى جزء من المنطقة الجغرافية الواسعة التى أشار إليها هذا الوعد، والتى كانت بمثابة الإطار أو المجال الجغرافى لمحاولاتهم. فلما استقروا فيه فعلًا، بعد محاولات ومعارك اتسمت بالوحشية والقسوة، هو منطقة أشبه بالجيب، يُشار إليها الآن بيهوذا والسامرة، ومناطق فى شرق الأردن، وتعود محدودية المنطقة إلى فشلهم فى أن يكونوا أمناء مع الرب إلههم. ذلك الفشل الذى تردد ذكره مئات المرات فى أسفار القُضاة والملوك والأخبار، وندد به الأنبياء الكبار والصغار.
أما عن أورشليم (القدس) فالواقع أنها لم تخلص لهم إلا لفترة قصيرة تُقدّر بثلاثة وسبعين عامًا، فى عهد داود وسليمان. وكانت المدينة تُعرف باسم «يبوس». وقد أقامها اليبوسيون (3000 قبل الميلاد)، وهم من سلالة الكنعانيين العرب الذين هاجروا من الجزيرة العربية، وكانت حصنًا منيعًا على نبع ماء. وقد عجز «يشوع» عن الاستيلاء عليها. وقد ظلت فى أيدى اليبوسيين طوال عصر «القُضاة» وشاول الملك.
ثم تحدث الكاتب المُبدع عن حدثين متناظرين فى حياة إسرائيل: أولهما السبى البابلى الذى حدث فى القرن السادس قبل الميلاد (598 قبل الميلاد)، أيام نبوخذ نّصر البابلى، الذى أخذ قوام الشعب اليهودى إلى بابل، حيث قضى 70 عامًا، كما أحرق الهيكل، ودّمر المدين وسواها بالأرض. وثانيهما تدمير الهيكل فى القرن الأول الميلادى (70 ميلادية) أثناء الحُكم الرومانى، وتشتت الشعب اليهودى حتى لا تقوم له قائمة.
وفى ختام كتابه الشيق هذا تكلم الكاتب عن إمكانية توبة إسرائيل كما ورد فى كتابات بولس الرسول، وما يتبع ذلك من تخليها عن فكرة «الشعب المُختار» و«أرض إسرائيل الكبرى»، واهتمامها بالتعايش مع كل الشعوب والأديان، فى سلام ووئام. ويركز الكاتب على أن هذه التوبة لا تعنى أن نقبل ما تمارسه من ظلم دموى عنصرى، وتطلُع أرضى، باعتبار أن هذا تمهيد لتوبتهم. فالله يستحيل أن يرضى بالظلم والقهر، ولكن باب التوبة مفتوح فى كل مكان وزمان.