قسيس فوق منبر الأزهر.. القمص سرجيوس أيقونة الوطنية والتضحية

بقلم هاني محمد علي
حينما تشتد الأزمات، ويحتدم الصراع بين الاستعمار والشعوب، تُولد شخصيات استثنائية تسطر التاريخ بدمائها وأفعالها، وتصبح أيقونات خالدة للوطنية والتضحية. ومن بين هؤلاء الذين سجلوا أسماءهم بحروف من نور في تاريخ مصر، يبرز القمص سرجيوس، ذاك الرجل الذي لم يكن مجرد رجل دين، بل كان شعلة مقاومة ونموذجًا فريدًا للوحدة الوطنية.
في سنة 1882، وهو العام الذي احتلت فيه بريطانيا مصر، شاءت الأقدار أن يولد القمص سرجيوس، وكأن القدر أراد أن يكون شاهدًا على الاحتلال، بل وأحد أقوى المقاومين له. لم يكن مجرد خطيب، بل كان رجلًا صاحب رسالة وطنية، جاهد بقلمه ولسانه، وحوّل المنابر إلى ساحات نضال، ليقف صامدًا في وجه الظلم والاستعمار، متحديًا كل محاولات التفرقة التي سعى الاحتلال إلى زرعها بين أبناء الشعب المصري الواحد.
سرجيوس في الأزهر.. صوت الوحدة الذي أرعب الاحتلال
حينما اندلعت ثورة 1919، كان الاحتلال البريطاني يراهن على تمزيق نسيج الشعب المصري، عبر إذكاء نار الفتنة بين المسلمين والأقباط، لكن القمص سرجيوس كان بالمرصاد لهذه المحاولات الخبيثة. فلم يكتفِ بإعلان ولائه للوطن، بل تجاوز كل التوقعات، حين صعد بنفسه إلى منبر الجامع الأزهر، ليصبح أول قبطي يعتلي هذا المنبر، في مشهد تاريخي يعكس مدى التلاحم بين أبناء الوطن الواحد.
وقف هناك، وسط جموع المصريين، ليصدح بصوته الجهوري، مُعلنًا:
“أنا مصري أولًا.. ومصري ثانيًا.. ومصري ثالثًا.. لا فرق بين مسلم وقبطي، فالوطن لا يعرف إلا المجاهدين، ولا يميز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء!”
بهذه الكلمات المدوية، أرسل القمص سرجيوس رسالة قاطعة إلى الاحتلال البريطاني: لن تستطيعوا أن تفرقوا بين أبناء الوطن، ولن تجدوا بيننا من يقبل أن يكون أداة في أيديكم. لقد أرادوا استغلال الأقباط كذريعة للبقاء، فجاءهم الرد من قلب الأزهر الشريف بأن المصريين جسد واحد، في السراء والضراء، في الحرب والسلم، في الثورة والنضال.
عندما تحدّى القمص سرجيوس الموت من أجل مصر
لم يكن القمص سرجيوس خطيبًا عاديًا، ولم يكن رجلًا يعرف للخوف معنى. لقد كان يواجه الاحتلال بصلابة لا تلين، متسلحًا بإيمانه بأن الحرية تستحق التضحية، وأن الموت في سبيل الوطن شرف لا يُضاهى.
وذات يوم، بينما كان يخطب في ميدان الأوبرا وسط جموع المصريين المحتشدة، تقدم منه جندي بريطاني، وأشهر مسدسه في وجهه، مهددًا بقتله. ارتفعت أصوات الجماهير من حوله، تحذره وتستغيث:
“حاسب يا أبونا.. هايموتك!”
لكن القمص سرجيوس لم يرمش له جفن، ولم يتراجع خطوة، بل رد عليهم بصوت ثابت، يحمل عزيمة من نذر نفسه للوطن:
“ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت؟ دعوه يُريق دمي لتروي أرض وطني التي ارتوت بدماء آلاف الشهداء! دعوه يقتلني ليشهد العالم كيف يعتدي الإنجليز على رجال الدين!”
كانت هذه الكلمات كالرصاص في وجه الاحتلال، فارتبك الجندي البريطاني، وتراجع عن تنفيذ تهديده، فقد أدرك أنه أمام رجل لا يُرهبُه الموت، ولا يمكن كسره أو إخضاعه.
التضحية العظمى.. عندما قدّم سرجيوس درسًا في الفداء
لم يكن القمص سرجيوس مجرد خطيب ملهم، بل كان رجلًا مستعدًا لتقديم أغلى ما يملك في سبيل وطنه. وحين حاول الاحتلال تبرير وجوده في مصر بادعاء حماية الأقباط، جاء الرد من القمص سرجيوس بقوله الخالد:
“إذا كان الإنجليز يتمسكون بوجودهم في مصر بحجة حماية الأقباط، فليمت الأقباط وليحيا المسلمون أحرارًا! ولو احتاج الاستقلال إلى مليون قبطي، فلا بأس من التضحية!”
بهذه الكلمات، وجه ضربة قاصمة للاستعمار، وأثبت أن الأقباط لم يكونوا يومًا عبئًا على الوطن، بل كانوا دومًا شركاء في النضال والتضحية. لقد قدم القمص سرجيوس نموذجًا فريدًا لرجل الدين الذي لا ينعزل عن قضايا شعبه، بل يكون في قلب المعركة، يدافع عن الأرض، ويؤكد أن الوطن فوق الجميع، وأن المصريين جميعًا على استعداد للتضحية من أجله.
إرث خالد.. ورسالة لا تموت
في عام 1964، رحل القمص سرجيوس عن عالمنا، لكنه لم يرحل عن ذاكرة مصر، فقد ظل اسمه محفورًا في سجل الخالدين، وصورته شامخة في ذاكرة الوطن. إن سيرته هي درس للأجيال، وعبرة لمن يتوهم أن المصريين يمكن أن يُفرّق بينهم دين أو طائفة.
واليوم، إذ تواجه مصر تحديات جسام، نجد التاريخ يعيد نفسه، فنرى الشعب المصري يلتف حول قائده وزعيمه، الرئيس عبد الفتاح السيسي، في ملحمة وطنية جديدة، يؤكد فيها الأقباط والمسلمون أنهم يدٌ واحدة، وجسد واحد، وسياج منيع يحمي هذا الوطن.
إن الأقباط، كما كانوا دائمًا، في مقدمة الصفوف، يدعمون مصر، ويقفون خلف قيادتها، ويرددون مع أشقائهم المسلمين: تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر!
ويحيا قائدها وزعيمها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ويحيا جيشها العظيم، وتحيا وحدة المصريين التي لا يمكن أن يُزعزعها شيء!